رحمك الله ياوالدنا بروفيسور مالك بابكر بدري..!!

رحمك الله يا بروفسور مالك ..!!

حقا.. لقد ترجل، وودع والدنا دنيانا على عجل في وقت كنا في أشد الحاجة إلى نصحه، وتوجيهه، وإرشاده..

 

رحمك الله يا مربي الأجيال، وأسكنك في فسيح جنانه، وجعل قبرك روضة من رياض الجنة..

إنه سنة الحياة، وناموس الكون أن نصحو أحيانا على خبر يدمع العين، ويحزن القلب، وأن ننام طورا مع نبأ يفجع الفؤاد، ويحير العقل، ويؤثر على النفس.

كان يوم الاثنين الموافق 8 من فبراير يوما عصيبا وغليظا على نفسي، وكانت تلك الساعة التي نما فيها إلى علمي نبأ وفاة والدنا بروفيسور مالك بدري أصعب ساعة مرت علي منذ سنوات .. أحقا.. غيب الموت ذلك العالم الرباني الذي كان يوصل ليله بنهاره، وكان لسانه لا يفتر قط عن ذكر الله..

أصحيح.. أن يد المنية امتدت إلى روح والدنا، وأستاذنا، ومربينا، ومربي الأجيال..

أحقا.. أن والدنا لن يرد بعد اليوم على مكالماتنا وعلى رسائلنا..

أصحيح.. أن مربينا لن يقوى بعد اليوم على توجيهنا في همومنا وغمومنا..

أحقا.. أن مفسر أحلامنا ومحلل سلوكنا لن يقدر بعد اليوم على إرشادنا..

أصحيح.. أننا سنحرم من اليوم من الاستمتاع والتلذذ بدعوات والدنا..

إي وربي.. كل ذلك حق.. والموت حق.. والساعة حق.. والبعث حق.. والجنة حق.. والنار حق.. ما أشد وقع ذلك النبأ على قلبي، وما أعظم أثر ذلك الخبر على نفسي..

نعم.. حقا لقد انتقل إلى رحمة الله وغفرانه بإذن الله من كان لي ولأجيال كثر أبا روحيا، ومربيا عظيما، وفخرا للأمة الإسلامية، ومرجعا فذا لعلماء النفس المسلمين وغير المسلمين..

حقا.. لقد رحل عن دنيانا الفانية من كان ملء السمع، وملء البصر لآلاف الباحثين عن تفسير إسلامي رشيد للأحلام، وتحليل علمي متماسك للسلوك الإنساني استنادا إلى كتاب الله الكريم وسنة رسوله العظيم، فداؤه أبي وأمي، صلى الله عليه وآله ؤسلم..

نعم ومدبر الكون.. لقد لبى نداء ربه ذلك العالم الصالح العابد القانت الذي كان النور يتلألأ على جبينه، وكانت الطمأنينة تعلو محياه، وكانت الثقة بالله تملأ جوانحه.. وكان التفاؤل كل التفاؤل لا يفارق حديثه، ولم تكن فجائع الدهر تؤثر فيه، ولا كانت ملمات الحوادث تزعزعه، ولا كانت وشايات ونكايات الأعادي تغير في حبه.. كنا نراه دائم التبسم أمام الأزمات، ومنشرح الصدر أمام المواقف الحالكة، والمناسبات المقلقة.. كان يذكرنا ليل نهار بقوة الأذكار، وقدرة الأدعية المختارة على تذليل العقبات، وتسهيل الصعاب.

على مدار عقدين من الزمن لم يمل قط من توجيه، ولم يسأم من إرشاد وتسديد، كان لقياه مصدر طمأنينة لنفوسنا، وكان سماع صوته مبعث أمل وثبات، ويشهد الله أن شطرا كبيرا من همومنا كان يزول عند لقياه، وكانت سحابة غمومنا تنقشع عند الاستماع إلى حديثه الشيق العظيم.. علمنا أن التملق والتزلف والمداهنة والمجاملة من أخلاقيات اللئام، وأن الصراحة والوضوح والاستقامة في القول والفكر من خصال الكرام..

نعم.. كان عميقا في نظراته، مبدعا في تحليلاته، موفقا في تفسيراته للأحلام، دائب السعي في حل مشاكل طلابه، ملازما للمسجد، دائم الذكر، ومصطحبا في خلواته وجلواته تلك السبحة البنفسجية المعطرة التي كانت تفوح منها رائحة الإخلاص..

تعلمنا من أستاذ الأجيال أن تراثنا الإسلامي يزخر بعطاءات وأفكار علماء نفس كبار، وأن هذا التراث يضم بين جنباته تفسيرات وتحليلات نفسية لا تقل تماسكا وعمقا ونضجا عما يتفاخر به الآخرون في هذا الزمان..

كان – رحمه الله – يكررها لنا في المحافل والمنابر دوما وأبدأ بأن ثمة اجتهادات رصينة في مجال الدراسات النفسية والسلوكية لأئمة هدى وتقى كالغزالي، وابن رشد، وابن سينا، وابن تيمية وابن القيم، وابن سيرين وغيرهم كثير.. تستحق من الأمة والعالم الاحتفاء والافتخار والإشادة..

رحمك الله يا والدي، وجزاك عني وعن كل تلاميذك، وكل محبيك، وكل محبي العلم والتزكية والتربية خير الجزاء.. وعسى الله أن يقبلك في جوار النبي المصطفى- صلى الله عليه وآله وسلم- الذي أحببته كل الحب، وكنت تصلي عليه في حركاتك وسكناتك..

 

عزاؤنا لعلم جردته من الإلحاد، والفراغ، وأفحمته معنى، ومغزى..

عزاؤنا لطلبة علم تفانيت في تعليمهم، وأخلصت في تربيتهم، وعلمتهم الثقة بأنفسهم والاعتزاز بتراثهم وثقافتهم.. عزاؤنا لبلد ولدت على ربوعه، وترعرت في أحضانه، ونسمت من هوائه محبة الأولياء، وصحبة الأخيار..

عزاؤنا لبلدان كثيرة بذرت فيها بذور الخير والبركة، وربيت فيها آلاف الطلبة والباحثين..

عزاؤنا كل عزائنا لذرية صالحة ربيتها، وهذبتها، وغرست فيها محبة الله، ومحبة رسوله -عليه صلوات ربي وتسليماته- ومحبة الصالحين..

 

وختاما..إنني أعزي نفسي وأهلي برحيلك، وبالفراغ الذي ستتركه بعد اليوم في حياتي..إذ إنني لن أسعد بعد اليوم بسماع صوتك، ولن أكرم بعد اليوم برؤية وجهك الباسم، وبالاستمتاع بحديثك المليء بالروحانية والتفاؤل..

 

يا إلهي.. تقبل والدنا عندك في النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..

يا إلهي اجمعنا به في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون في جنة النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

يا إلهي رحماك وعفوك وكرمك ولطفك بوالدنا ومربينا..

إنا لله وإنا إليه راجعون..

 

ابنك وتلميذك/ قطب مصطفى سانو

اقرأ ايضا

آخر الأخبار

اذهب إلى الأعلى