بدعوة كريمة من لدن مؤسسة دار الحديث الحسنية بجامعة القرويين بالمملكة المغربية ألقى معالي الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، الأمين العام للمجمع، كلمة عن “الحاجة إلى العلوم الإنسانية في صناعة الاجتهاد والإفتاء في العصر الراهن، وذلك في الجلسة العلمية الأولى للندوة الدوليَّة التي نظمتها المؤسسة بعنوان ” تدريس العلوم الإنسانية في مؤسسات التعليم العالي الديني: الراهن والمستقبل ” يوم الثلاثاء 26 من شهر شوال لعام 1444هـ الموافق 16 من شهر مايو لعام 2023م بمقر المؤسسة بالعاصمة المغربية الرباط.
هذا، وقد استهل معاليه محاضرته بتقديم الشكر الجزيل والتقدير الجليل إلى القائمين على مؤسسة دار الحديث الحسنية على حسن الاستقبال، وحفاوة الترحاب، وعلى تنظميهم الموفق لهذه الندوة العلمية الآنية المهمة في العصر الحاضر، مشيدا بأهمية موضوع الندوة وضرورة الإكثار من الندوات والمؤتمرات المماثلة التي تهدف إلى تعزيز الوعي بأهمية العلوم الإنسانية، وإبراز الحاجة العلمية والمنهجية إلى تدريسها في مؤسسات التعليم العالي الديني، كما قدم الشكر الجميل والثناء العظيم لمقام أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، لما يحظى به العلم والعلماء في ربوع المملكة من توقير، واحترام، ورعاية، وعناية، سائلا الله أن يديم على جلالته على الشعب المغربي نعمة الأمن، والأمان، والاستقرار، والازدهار. ثم تطرق لمفردات محاضرته التي أكَّد فيها بأنَّ “كلًّا من الاجتهاد والإفتاء بات صناعةً لا يمارسها كلُّ من هبَّ أو دبَّ، وغدا مهمَّةً سامية لا يصلح للقيام به كلُّ غادٍ أو راحٍ؛ وإحساسًا بخطورة التجاسر على حماها، والاعتداء على حرمتها قبل التمكن من أدواتها وآلاتها ذهب علماء الاصول والمقاصد في فترة مبكرة من تاريخ تدوين العلوم إلى إحاطتها بسياج متين من الشروط والضوابط التي تحول دون المساس بها.. وتعرف هاتيكم الشروط والضوابط في الدرس الأصولي بعلوم ومعارف الاجتهاد والإفتاء تارة، وبأدوات الاجتهاد والإفتاء طورا، وبآليات الاجتهاد والإفتاء حينًا..” ثم أوضح معاليه أنَّ للحكم الشرعيِّ ثلاثة أركان، وهي الحاكم، ويراد به الشارع الكريم ممثلا في الكتاب والسنة وما يتفرع عنهما من أدلة تعرف بالأدلة الفرعية، أو الأدلة العقلية، والركن الثاني هو المحكوم عليه، ويراد به الإنسان المكلف، وأما الركن الثالث، فهو المحكوم فيه، ويراد الفعل الذي يعد محل التكليف، وأردف قائلا إن الهدف المبتغى من الاجتهاد والإفتاء هو ” تحقيق وصل أمين بين وحي السماء، وواقع الأرض، وتمكين الإنسان من القيام بواجب الاستخلاف وعمارة الكون” مما يعني أنَّ موضوع كلِّ من الصناعتين، الاجتهاد والإفتاء، يدور حول فهم النَّصِّ (الوحي=الحاكم)، وفهم الإنسان (=المحكوم عليه= المكلف)، وفهم الواقع (=المحكوم فيه أو به= محل التكليف)، وذلك من أجل “ضمان امتثال الإنسان لما جاء به الوحي (=النص المقدس)، وضمان انفعال الواقع بتعاليمه السامية، درءا لشبح التعارض والتناقض بين النص والإنسان من جهة، وبين النص والواقع من جهة أخرى”.
وأشار معاليه إلى أن “المتأمل في تيكم الأدوات والآلات التي عدها السابقون من أهل العلم بالأصول والمقاصد أهم شروط لممارسة الصناعة يجد معظمها معارف وعلوما تمكن المتصدّي من فهم النص فهما رشيدا رشيقا؛ وأما تلكم المعارف والعلوم التي تمكنه من فهم الإنسان فهما رصينا ومتينا موازيا، فإننا نحسب أنها لم تحظ بذات العناية اللائقة، ولا بتلك الرعاية المرجوة، تأصيلًا لأسسها، وتحريرا لمحتوياتها، كما أننا نحسب أن الاهتمام المنشود، والتحرير المرتقب لتيكم المعارف والعلوم التي تمكنه من فهم الواقع الذي يراد تطويعه وإخضاعه لإرادة الشارع الكريم لم تنل هي الأخرى ما تستحقه من تأصيل، وتحرير، وتحقيق، ولذلك، فإننا ندعو من هنا، من مؤسسة دار الحديث الحسنية العريقة، إلى ضرورة إعادة النظر في تصنيف علوم وأدوات الاجتهاد والإفتاء ليغدو تصنيفًا موضوعيًّا متوازنا يعتدُّ بالعلوم والمعارف التي تعين على فهم النَّصِّ المقدس علوما ومعارف للاجتهاد والإفتاء، ويعتد أيضا بالعلوم والمعارف التي تعين على فهم الإنسان، وفهم الواقع فهما سويًّا رزينًا لا يقل عمقًا، ودقَّة عن سابقاتها، وذلك ضمانا لتنزيل آمن وفاعل لمقتضى ومغزى النص الثابت على الإنسان والواقع الذي يتقلب بين جنباته تأثرا وتأثيرا..”
وبالنسبة للنوع الأول من العلوم والمعارف الأولى، فإنها تتمثل فيما يعرف بالعلوم والمعارف الموسومة بالعلوم والمعارف الشرعية، وتنتظم معرفة اللغة العربية، علم أصول الدين، وعلم الحديث، وعلم أصول الفقه، وعلم الاختلاف =الفقه المقارن، ومعرفة المقاصد. وأما بالنسبة للنوع الثاني من العلوم والمعارف، فإنها تتمثل في تلك العلوم والمعارف الموسومة بالعلوم والمعارف الإنسانيَّة..”
و”تأسيسا على هذا، قرر المحاضر بأن تمكين صناعة الاجتهاد والإفتاء من إحداث التغيير المنشود والمستديم في الإنسان والواقع يتطلب اليوم إتقان المتصدّي لها المبادئ الأساسية التي تتكون منها تلك العلوم والمعارف، كما يتطلب تشبعه من كبرى النظريات التي تنتظمها، فضلا عن ضرورة الإشراف على مناهج وأدوات البحث فيها التي توازي طرق الاستدلال والاستنباط”.
وأردف قائلا: “إن مقتضى هذا التصنيف المقترح لعلوم ومعارف صناعة الاجتهاد والإفتاء ضرورة تجاوز ذلك الفصام النكد ببن علوم الدين وعلوم الإنسان، وضرورة القيام بمراجعة حصيفة وأمينة للمناهج والمقررات الدراسيَّة لتغدو مناهج قادرة على إعداد جيل متمكن ومتوازن من العلماء والمفكرين يفهمون النص المقدس (=الوحي=المثال) فهما رصينا، ويفهمون الإنسان والواقع الذي يؤثر فيه ويتأثر به.
إن مستندنا في هذه الدعوة ما يجده القارئ في كثير من الكتب والمصنفات التي تحدثت عن شروط الاجتهاد والإفتاء من اعتداد أربابها بمعرفة الواقع شرطا من شروط الاجتهاد، وبمعرفة الناس شرطا من شروط الإفتاء، بَيْدَ أن المرء لا يجد في خضم ذلك تحريرا وتفصيلا لتلك العلوم والمعارف المعينة على تينكما المعرفتين”. ثم أوضح أن “للسابقين عذرهم في عدم التنصيص على العلوم والمعارف المسماة العلوم والمعارف الإنسانيَّة ضمن علوم ومعارف الشرع، وذلك اعتبارًا بأن هاتيكم العلوم والمعارف لم تكن مدونة في عصورهم، مما يتعذر معه التنصيص عليها في ذلك الزمان. وبالنسبة لعصرنا الراهن، فإن ذلك العذر لم يعد مقبولا، ذلك لأن تلك المعارف والعلوم باتت اليوم مدونة ومتاحة وميسرة للتعلم والاستزادة، مما ينتفي معه كل عذر أو أإعراض عن عدم التنصيص عليها..”. ولهذا، فإنه ينبغي الاعتداد اليوم بالعلوم الإنسانية أحد شروط الاجتهاد والإفتاء في عصرنا الحاضر، وذلك بحسبانها علوما تقدم تفسيرا معقولا للظواهر المحيطة بالإنسان بشتى تجلياتها وتشكلها، كما تتوافر على مناهج وأدوات بحث معينة على حسن فهم الواقع، وعلى فهم الواجب في الواقع دون تكلف.. وبطييعة الحال، فإنه من نافلة القول إنه ليس مطلوبا من المتصدّي للاجتهاد والإفتاء بلوغ درجة المختصين في سائر المعارف والعلوم التي ذكرها العالمون بالأصول والمقاصد سواء لمعرفة النص أو لمعرفة الواقع ومعرفة الإنسان، وإنما يكفيه إتقان المبادئ الأساسية منها، وذلك بحسبانها كلها علوم آلات ووسائل لا علوم غايات ومقاصد، كما نبه على ذلك ابن خلدون في مقدمته..”. وختم محاضرته بالتنصيص على أن حاجة كل من المجتهد والمفتي إلى العلوم الإنسانية تعد من آكد القربات، وأسمى العبادات لتتحقق الغاية من اجتهاده، وفتواه، المتمثلة في تحقيق قيومية الدين على الواقع، وتسديد الحياة بتعاليم الشرع في توازن وترابط وانسجام وثبات.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار