د. عبد الفتاح أبنعوف: الذكاء الاصطناعي.. فرصة لتحقيق أكبر المكتسبات في مجال حقوق الإنسان!

بدعوة كريمة من الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، ألقى سعادة الدكتور عبد الفتاح محمود أبنعوف، مدير إدارة التخطيط والتعاون الدولي ممثلًا لمعالي الأمين العام للمجمع، ورقةً علمية في الدورة العاديّة الثالثة والعشرين للهيئة حوْل: “أثر الذكاء الاصطناعي على حقوق الإنسان.. التحديات والفُرص”، يوم الأحد 24 من شهر ذي الحجة 1445هـ الموافق 30 من شهر يونيو 2024م بمدينة جدة.

واستهلّ سعادته ورقتَه في الجلسة الأولى بعنوان (المنظور القانوني الدولي/ المعياري والإسلامي لحقوق الإنسان بشأن الذكاء الاصطناعي) بقوْله: “بدايةً أسجّلها شكرًا وتقديرًا للهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان على تنظيم هذه الدورة في هذا الموضوع الهامّ الذي يؤكد رعايتها الدائمة والدائبة لكل ما يتعلق بمجال حقوق الإنسان.

ثم تحدث سعادته عن أن أحكام الشريعة الإسلامية الغرّاء ومبادئها السامية الهادفة إلى سعادة الإنسان لكل تطور علمي يؤدي إلى تنمية قدراته تحقيقًا لمبدأ إعمار الأرض، من خلال الأهمية الكبرى المُناطة بتراثنا الفكري الزاخر الذي يضُمّ بين جَنَباته قيَمًا عُظمى، أساسها تحقيق الخير للبشرية ورفع الحرج والمشقة عنهم، وإرادة اليُسر لهم. مبيِّنًا أن الفقه الإسلامي مُسايرٌ لجميع جوانب الحياة، وأنه لا يمكن أن تحدُث حادثة أو تنزِل نازلة إلا ويوجد لها حكم في كتاب الله تعالى، وسُنة نبيِّه عليه الصلاة والسلام. وقد ورد عن الإمام الشافعي قوله: “فليستْ تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدي فيها”.

كما تحدث عن تعريف الذكاء الاصطناعي بأنه: قدرة الآلات وأنظمة الحاسب على أداء المهام التي ترتبط عادة بالذكاء البشري، مثل: القيام بتحليل لمواقف الحياة الواقعية، والتخطيط، وتنفيذ المهامّ، وحل المشكلات، ويتم ذلك عبر تطوير البرمجيات الخوارزمية لتعزيز قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على التفاعل مع البشر والبيئة الطبيعية.

مبينًا أن هذا الذكاء الذي يصطلح عليه بـ(الاصطناعي) وهو في حقيقته جزء من الذكاء البشري، وأن الذكاء البشري هو الذي أنتج هذا الذكاء، وهو تفرّع منه، وباتَ اليوم يفوق هذا المعلّم الذي أنشأه، وربما في المستقبل القريب قد يحلّ محلّه. ولذلك ينبغي علينا تفعيل القيَم المُثلى بتوجيه سلوك مَن يعملون في تطوير هذه البرمجيات بأن تنتظم هذه الأخلاق والقيم مقاصد كبرى تحقق المحافظة على الإنسانية، وتحقق المقاصد الشرعية الخمسة، وتحمل بين طيّاتها ضوابط عُليا تسدّد التصرف وتوجّهُه، استنادًا إلى النصوص العامة المَرِنة من الكتاب والسنة الواردة إزاء هذا المستجدّ، اعتصامًا بمقاصد الشرع الكريم القارة في المستجدات والنوازل، واستصحابًا للقواعد الفقهية والأصولية الناصعة الموجهة للقضايا والمسائل المستحدثة في الملّة، والْتفاتًا إلى المآلات وتحكيم المصالح والمفاسد فيما تجود به الأيام من أشكال وأنماط للتطور السريع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الحياة، وتنوّع المعارف والعلوم الطبيعية التطبيقية إقدامًا وإحجامًا.

ثم تحدث سعادته عن أثر هذا الذكاء الاصطناعي على حقوق الإنسان والعمل على وضع الضوابط والمرتكزات التي يتم من خلالها تحقيق أكبر قدر من المكتسبات لهذا الذكاء في مجال حقوق الإنسان، سعيًا في أن يصبح هذا الذكاء الذي أنشأه الذكاء البشري أداةَ إعمار، وأداةَ بناء، وأداة تقدم وتطور وتطوير للمجتمعات، وألّا يتحول هذا الذكاء إلى أداة هدم وتدمير كما نخشاه جميعًا. وذلك من خلال مراعاة المقاصد الشرعية الضرورية الخمسة عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، فينبغي أن تُراعى حتى تتم موافقته مع تحقيق المقاصد الشرعية وتصلح هذه المقاصد أن تكون الإطار الذي نتحرك من خلاله من أجل حماية هذا الذكاء، وجعْلِه ذكاءً خادمًا للإنسان كما يخدِمه ذكاؤه الطبيعي، وذكاؤه الحقيقي. تعاونًا وتكاملًا بين العلماء والمختصين في هذا الذكاء من باب أنها ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى الناس بها. وأنها هي بضاعتنا رُدّتْ إلينا. وإن لم تكن قد نشأتْ في دولنا وفي ديارنا إلّا أنها باتَت اليوم نعمة من النِّعَم التي يمكن أن تنضاف إلى نِعَم الله جلّ جلالُه، وأن حجر الأساس، مؤكدًا في ذات السياق بأن هذه العلوم والرياضات والخوارزميات المعقدة أساسها ومرتكزها الذي انطلقت منه ماهي إلا نتاج لأساس وإرث تاريخي إسلامي عظيم وضعه العلماء المسلمون العظماء مثل: ابن الهيثم، والخوارزمي الذي أسس علم الرياضيات الحديثة، وغيرهم ممن لهم قدَم السبْق في هذا المضمار، ولكنها في الوقت نفسه، هذه النازلة، وهذا الوافد يمكن أن يتحول إلى نقمة والعياذ بالله نخشاها، ونتجنّب ونخشى ألا يكون لها هذا الأثر المدمّر للفرد والمجتمع.

واستعرض سعادته من خلال الورقة النظرة المقاصدية لهذا الوافد وخاصة في إطار حقوق الإنسان، ففي مقصد حفظ النفس وهو مقدَّم على حفظ الدين؛ لأنه لا دِين بلا نفْس؛ ولأن النفس تُقدَّم ويضحَّى بالدين من أجل المحافظة على النفس، في إطار المحافظة على حقوق الإنسان لنحافظ على الأنفس ولنجعله أداة ووسيلة تنفعنا وترفع عنا، وتقصّر عنا المسافات، ونعمل من خلال دراسته والتعمق فيه إلى زيادة الوعي، واكتساب المعارف في البرمجيات والتحليل الاستراتيجي وتجميع البيانات الوفيرة وتحليلها وفق السياسات التي تخدم مجالات حقوق الإنسان. والاستفادة والاكتساب من الفرص والتحديات التي يمكن أن يطرحها الذكاء الاصطناعي في مجال حقوق الإنسان. والتنبّه للمخاطر التي تؤثر على استغلال الحقوق الشخصية، والتعدّي عليها، وتفعيل المساءلة القانونية فيما يتعلق بانتهاك معايير حقوق الإنسان المتفق عليها عالميًّا، مثل: مراعاة اختراق الأنظمة للذكاء المستخدمة في العلاج، وعدم الإضرار بالمرضى وبرمجة الأجهزة في العلاج، والحذر من إعطاء العلاج الخاطئ حتى لا يؤدي إلى إزهاق الأرواح وهلاك الأنفُس. وفي جانب حفظ الدين، ينبغي مراعاة استخدام الذكاء الاصطناعي بعيدًا عن الإساءة بما يمسُّ العقيدة والشعائر والأخلاق الإسلامية، والمحافظة على القيَم النبيلة والأخلاق الحميدة من عدم الفساد والإفساد. وفي جانب حفظ العقل؛ ينبغي مراعاة كل ما يخالف حفظه أو الإضرار به، مثل: الترويج للأفكار الضالّة الهدّامة، ونشر الإلحاد، واستخدام البرمجة في تجارة المُسْكِرات والمخدّرات، وغيرها. أما في جانب حفظ المال، ينبغي مراعاة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بحماية أموال الغير، وعدم التعدّي على حساباتهم الإلكترونية وممتلكاتهم من خلال برامج القرصنة الحديثة التي تؤدي إلى هلاك الأموال من أصحابها وضياعها. وأخيرًا في جانب حفظ العِرض والنسْل، لا بدّ من مراعاة جوانب التقنية عند الاستخدام للذكاء الاصطناعي من تحريم الاعتداء على الأعراض والترويج للفاحشة ونشر الفضائح من خلال التزييف للبرامج المفبركة بالترويج سلبًا بنشر الأباطيل والأكاذيب لحُرمة قذف المُحصَنات العفيفات، وعموم الفساد الأخلاقي في الشعوب والمجتمعات.

ثم أكّد سعادته من خلال الورقة بأننا إذا نظرنا إلى هذا الذكاء من خلال هذه المقاصد استطعنا أن نضع الضوابط التي تعصِمه من الانفلات ، وتعصمه من أن يصبح أداةَ هدم وتدمير في مجتمعاتنا، أي: لا نوظِّفه فيما يعود بالضرر والمفسدة على النفس، ولا نوظّفه فيما يؤثّر على التنوّع البشري على مقصد حفظ العِرض وحفظ النَّسَب، ولا نوظّفه فيما يؤدي إلى انتهاك الخصوصية، والتعدي على حقوق الغير، والسعي في التشهير به أو تدميره في مستقبله، أو في ما يتعلق بخصوصياته، بل لا نوظّفه فيما يضُرّ بالدين، بل نجعله أداةً نتعامل معها لتعزيز الوعي بأحكام ديننا، ولتعزيز الوعي بحقوق الإنسان والأحكام التي تحكم مجالات حقوق الإنسان في شريعتنا، كالالتزام بالمبادئ الإسلامية الأخلاقية العميقة. ذلك لأن الإنسان هو الذي يبرمج هذا الذكاء ويطوّره، فالأصل فيه أن يكون صاحب مبدأ وخُلق رفيع، يراعي هذه القيَم الأخلاقية، والمبادئ الروحية التي لا تتعارض مع شريعتنا الغراء.

واختتم سعادته الورقة بقوله: نريده ذكاءً خادمًا للإنسان، مُعينًا على تحقيق المقاصد الشرعية الخمسة والمتفرّعة عنها، نريده ذكاءً يخدم ديننا، يحافظ على أموالنا، يحافظ على أعراضنا، يحافظ على عقولنا، بل إنه يحافظ على شريعتنا وعلى ديننا. عندها يصبح هذا الذكاء هو الذي نقول فيه هو “بِضاعتُنا التي رُدّتْ إلينا“.

الجدير بالذكر أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي قد اختار هذا الموضوع كأحد موضوعاته للدورة السادسة والعشرين التي ستُعقد بمشيئة الله في دولة قطر. بُغية دراسته دراسةً وافية ضافية لبيان آثاره من حيث المنافع والمفاسد، ومن خلال الضوابط والأخلاقيات عند الاستخدام، ومجالات الاستخدام، وبيان الحكم الشرعي لتلك المجالات، ثم الضوابط الشرعية التي ينبغي مراعاتها عند استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات وجميع المستويات، مؤكدًا بأن المجمع سيسْترشِد ويستَلْهِم بما تخرُج به هذه الدورة المباركة من مخرَجات حول هذا الموضوع الهامّ لتعلّقه بأهم عنصر، وهو الإنسان الذي خَلَقه الله لعمارة الأرض وسخّرها له؛ بُغية الاستفادة منها لسعادته في الدنيا والآخرة. وبهدف الوصول إلى مقاصده ودراسة أهدافه وغاياته، ومدى استفادة الإنسانية منه؛ تمهيدًا لوضع الضوابط والمعايير والمبادرات الإقليمية والدولية التي تواكب جهود العلماء في مُواءمة هذا الوافد الجديد، بما يحفظ ويصُون ويرعى حقوق الإنسان في الدول الأعضاء لمنظمة التعاون الإسلامي، ودول المجتمعات المسلمة.

اقرأ ايضا

آخر الأخبار