بدعوة كريمة من جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بإمارة أبو ظبي بالامارات العربية المتحدة، ألقى معالي البروفيسور قطب مصطفى سانو الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي عبر الفضاء الافتراضي محاضرة بعنوان: قيم المحبة في القرآن الكريم.
وقد استهل معاليه محاضرته بالتعبير عن شكره الجزيل وتقديره الفائق لمعالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة، ولسعادة الدكتور خالد الظاهري مدير الجامعة على دعوته لإلقاء هذه المحاضرة ضمن سلسلة المحاضرات الدينية عن القيم الكبرى في القرآن الكريم، كما شكر معاليه أعضاء هيئة التدريس وطلبة وطالبات الجامعة على الحضور والمشاركة.
ثم تحدث معاليه عن أهمية موضوع المحاضرة -المحبة- والحاجة الماسة إلى تأصيل القول فيه اعتبارا بكون المحبة ثمنا لكل شيء وإن غلا، وسلما إلى كل شيء وإن علا، بل لكونه أساس الإيمان، ومفتاح الجنة، وعماد الاستقرار، وركيزة السعادة والرخاء، بل أصل العلاقة بين العباد وربهم، وبين بعضهم بعضا.. إذ لا سعادة ولا قرار ولا أمان ولا استقرار دون المحبة.
وأشار معاليه في هذه الأثناء إلى أن مفهوم مصطلح المحبة يتحدد بالنظر إلى المحبوب والمحب، وإن كان الأصل فيها عبارة عن ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيرا لها، مشيرا بهذا الصدد إلى ما قاله السابقون بأن هناك ثلاثين مفهوما للمحبة. ثم بيَّن معاليه أن مفهوم محبة الإنسان لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم تختلف عن مفهوم محبة الإنسان لأصوله (أبويه) ومحبته لفروعه (أبنائه) ولذوي الأرحام الخ.
فمحبة الإنسان لله تعني طاعته إياه وشكره له والثناء عليه وامتثاله أوامره واجتنابه نواهيه، بينما محبته للأصول والفروع والأرحام، فإنها تعني البر بهم والإحسان إليهم وإسعادهم في حياتهم.
وأما محبة الله للإنسان، فإنها تعني رعايته جل جلاله إياه وحفظه له، وحمايته من كل مكروه، كما ورد في قوله تبارك اسمه لسيدنا 《وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني》 (طه/٣٩) وقد ورد النص على هذا في الحديث القدسي :《..لايزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و رجله التي يمشي بها و يده التي يبطش بها.》.
وأوضح معاليه بأن في القرآن الكريم آية كريمة دلت بطريقة الإشارة على مراتب المحبة، وأهمية مراعاتها عند التعارض، وهي قوله تعالى:《قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترافتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين》التوبة: ٢٤.
إن كثيرا من المفسرين والباحثين يعتبرون هذه الآية واردة في معرض الذم والعتاب والاستنكار والتنديد، غير أن التأمل الرصين فيها نجدها تأصيلا وتقريرا وتحريرا لمراتب المحبة وأنواعها، كما نجدها تشريعا واضحا ينبغي للمكلف الرجوع إليه للتفاضل بين أصناف المحبوبين الذين يجب محبتهم والميل إليهم.
فقد أقرت الآية نوعين من المحبة؛ محبة فطرية وطبيعية، والثانية محبة اختيارية وكسبية، وبيَّنت الآية الأصناف التي تندرج تحت النوع الأول من المحبة، وهم: محبة الأصول (الآباء والأجداد) ومحبة الفروع (الأبناء والأحفاد) ومحبة أولي الأرحام (الإخوان والأخوات) ومحبة الأزواج (الأصهار والأنساب) ومحبة العشيرة ( القبائل والاجتماع البشري) ومحبة الأموال (العينية والنقدية) ومحبة المهن (التجارة والزراعة والصناعة) ومحبة المساكن (الدور والفلل والقصور)؛ وإنما كانت هذه المحبة طبيعية وفطرية لأن الإنسان مفطور عليها ولا يتعلمها، وإنما يعان على تهذيبها، وترويضها لتكون معتدلة ومهذبة.
وأما النوع الثاني من المحبة، فيتمثل في محبة الله، ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبة الجهاد في سبيل الله.
وإنما كان هذا النوع من المحبة اختياريا وكسبيا لأن الإنسان يكتسبها ويختارها من خلال مجاهدته لنفسه.
وهذه المحبة هي التي يجب تقديمها على المحبة بجميع أصنافها، وذلك اعتدادا بكونها محبة لأعظم وأجل محبوب تبارك اسمه. وبتعبير أدق، إذا تعارضت أي محبة مع هذه المحبة، فإنه يجب تقديمها مطلقا، كما هو الحال في وجوب تقديم محبته لله على محبته لأصوله وفروعه وذوي أرحامه، وأزواجه، وأمواله، ومهنه وأعماله.
وقد أوضح معاليه أهمية التنبه لهذا الأمر واعتباره هذه الآية أصلا وأساسا لتحديد مراتب المحبة وأنواعها، وضرورة مراعاة ذلك الترتيب عند وجود تعارض بينها. وبيَّن معاليه أن مستنده في اعتبار هذه الآية أصلا لتقرير مراتب وأنواع المحبة يعود إلى الالتفات إلى صيغة التفضيل في الآية 《أحب إليكم》، وتعني أن محبة الوارد ذكرهم في الآية مشروعة كما أن محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد في سبيله هي الأخرى مشروعة، وتقدم هذه المحبة على المحبة التي قبلها – على الرغم من كونها مشروعة- لأنها هي الأسمى والأجدر.
ثم أشار معاليه إلى أن القرآن الكريم دعا المؤمنين إلى اكتساب محبة أنواع من الأفعال والتصرفات الحميدة التي تزيد حياتهم سعادة وأمانا واستقرارا، وتتمثل خاصة في محبة التوبة ( يحب التوابين)، ومحبة التقوى (يحب المتقين)، ومحبة القسط (يحب المقسطين)، ومحبة الطهارة (يحب المتطهرين)، ومحبة الصبر ( يحب الصابرين)، ومحبة التوكل ( يحب المتوكلين)، ومحبة الإحسان( يحب المحسنين)..
فالآيات القرآنية التي عبر فيها المولى عن محبته جل جلاله لهذه الأفعال دعوة للمؤمنين إلى محبة هذه الافعال وتمثلها في حياتهم اليومية؛ إذ إن استقرارهم وسعادتهم وأمانهم مرهون بإشاعتهم هذه الأفعال.
فضلا عن بيان القرآن الكريم للأفعال والتصرفات التي ينبغي للمكلفين محبتها والسعي إليها، فقد بين أفعالا وتصرفات دعاهم إلى بغضها وكراهيتها والابتعاد عنها، وتتمثل في الخيانة (لا يحب الخائنين)، والاستكبار (لا يحب المستكبرين) والإسراف ( لا يحب المسرفين)، والخيلاء والرياء ( لا يحب كل مختال فخور)، والإفساد ( لا يحب المفسدين)، والظلم ( لا يحب الظالمين).
فهذه الأفعال والتصرفات تعد في حقيقتها معاول هدم ودمار لمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم خاصة، ولجميع مراتب المحبة الفطرية والطبيعية عامة، مما يقتضي بغضها ورفضها والابتعاد عنها.
وتطرق معاليه إلى إبراز العلاقة الثاوية بين المحبة والمودة من جهة، وبين المحبة والخُلَّة من جهة أخرى، حيث أكَّد بأن المودة أعلى وأعم من المحبة، إذ إن المودة تعد مرحلة متقدمة للمحبة إذا خالطتها الرقة والرأفة والرحمة، تصبح حينئذ مودة، ولأمر ما ليس من أسماء الله الحبيب ولكن الودود تأكيدا على أن المودة أعظم وأعلى من المحبة، ولذلك، فكل مودة محبة، وليست كل محبة مودة.
ولحكمة ما، حثَّ المولى الكريم على أنه ينبغي أن ترتقي العلاقة بين الزوجين إلى مرحلة المودة والرحمة، فقال جل جلاله 《ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون》الروم: ٢١، أي ارتقوا بعلاقتكم ببعضكم بعضا إلى مستوى المودة والرحمة، كما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حثَّ المسلم على الزواج بالولود الودود؛ فقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: 《تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة》 أو كما قال.
بل إن الله عز شأنه عبَّر عن أن العلاقة المثلى التي ينبغي أن تسود بين أتباع ما يعرف اليوم بالديانة الإبراهيمية يجب أن تكون المودة بدلا من المحبة تأكيدا وتقريرا لأهمية المودة وضرورتها للسعادة والاستقرار والأمن والأمان للبشرية جمعاء.
وأما العلاقة بين المحبة والخُلَّة، فهي كذلك علاقة عام بخاص، فالخلَّة أعم من المحبة، إذ كل محبة خلة، وليست كل خُلَّة محبَّة، إذ إنَّ الخُلَّة أعلى من المودة أي بعد المودة الخلَّة، وتعني مرتبة من العلاقة لا يتنافس عليها لعلوها وسموها، ولذلك ليس لله جل جلاله إلا خليلان، وهما سيدنا إبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهما الخليلان الوحيدان لله..
وفي نهاية محاضرته القيمة كرر معاليه دعوة الباحثين والدارسين إلى إيلاء موضوع المحبة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مزيدا من الاهتمام والرعاية بتأصيل قضاياها الكبرى، وتحرير تجلياتها المنيرة، وتحقيق مسائلها المتشعبة تمكينا للنشء من استيعابها، وتمثلها والتخلق بها.
وختم معاليه محاضرته بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:《لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على عمل إذا عملتموه تحاببتم.. أفشوا السلام، وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام》. أو كما قال..
ورحم الله الإمام الراغب الأصفهاني عندما قال:
“..لو تحابَّ النَّاس، وتعاملوا بالمحبَّة لاستغنوا بها عن العدل.. فالعدل خليفة المحبَّة يُستعمل حيث لا توجد المحبَّة.. وهي أفضل من المهابة؛ لأنَّ المهابة تنفِّر، والمحبَّة تؤلِّف.. طاعة المحبَّة أفضل من طاعة الرَّهبة، لأنَّ طاعة المحبَّة من داخل، وطاعة الرَّهبة من خارج، وهي تزول بزوال سببها، وكلُّ قوم إذا تحابُّوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عملوا، وإذا عملوا عمَّروا، وإذا عمَّروا عمَّروا وبورك لهم. .”.
وقد عقَّب معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي على المحاضرة تعقيبا متميزا أبرز فيه جوانب مهمة تتمثل في محبة الوطن الذي يعتبر المحضن لجميع أنواع ومراتب المحبة التي ورد ذكرها، كما أوضح أهمية علاقة المحبة بالطاعة والولاء للوطن ولولاة الأمر باعتباره تجليا من تجليات المحبة بأنواعها ومراتبها.
وقد نالت المحاضرة استحسانا وترحيبا من لدن المشاركين.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار