رحمك الله يا أبا أيمن.. يا فقيد الأمَّة.. الدكتور عبد الحميد أبو سليمان!!

《مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا 》 الأحزاب: 23

حقّا.. إنَّ الموت قدرٌ محتومٌ.. والبعث وعدٌ محسومٌ.. والعمل في كتاب مرقوم..

قِلَّة هم أولئكم الذين يجعل الله لهم لسان صدق في العالمين عليًّا..

ثُلَّةٌ هم أولئكم الذين لا يقوى الموت على محو مناقبهم ومآثرهم..

طائفةٌ قليلةٌ هم أولئكم الذين لا يقدر التراب على إخفاء ذكراهم..

كوكبةٌ نادرةٌ هم أولئكم الذين يوفِّقهم الله للإصلاح والإعمار والتنوير والتجديد..

زمرةٌ قليلةٌ هم أولئكم الذين يثبتون على المبادئ وينافحون عن القيم لا تزحزح صمودهم النكبات، ولا تنال من إيمانهم النكسات، ولا تؤثر في صدقهم الارتكاسات.. تزيدهم الأزمات إيمانًا وقناعةً منهم بأنَّ فجرًا مشرقًا للأمة آتٍ ولا ريب، وأنَّ مستقبلا زاهرا لشبابها قادم بلا شك.. وأنَّ سنوات التيه زائلة ولا محالة.. ولا تعدو النكبات والانتكاسات والارتكاسات والأزمات أن تكون إرهاصات تسبق الانتصار، وتعجل بالانفراج، وتمكِّن من تصحيح المسار..

نعم.. كنتم، يا أبا أيمن، وتستحقون أن تكونوا أحدًا من أولئكم القلَّة الذين سيجعل الله لهم لسان صدق في العالمين، ذلك لأنكم عِشْتم لأمَّةٍ مخلصين صادقين فنَذرتم حياتكم كلَّها لخدمتها، وزهدتم في زخرف متاع الحياة من أجل إسعادها، وضحيتم بصحتكم من أجل عافيتها..

كنتم وحريٌّ بكم أن تكونوا أحدًا من أولئكم الثلَّة الذين لن تقوى المنية أن تمحو بأي حالٍ من الأحوال مناقبكم ومآثركم ما بقي شامخًا في بلاد أرخبيل مالايو ذلك الصرح العلميُّ العريق الذي أعدتم بناءه، ونقلتموه بهمتكم وفكركم من مؤسسة علميَّة متواضعة مغمورة إلى مؤسسة علمية عالمية شهيرة ومواكبة تنافس بجدارة واقتدار المؤسسات العالمية العريقة في أنحاء المعمورة..

إيْ والله .. نقلتموه من مؤسسة تقليدية ذات كليات محدودة وطموحات بسيطة إلى مؤسسة عصرية شاهدة طموحة استطاعت في فترة وجيزة أن تنجب ولا تزال تنجب آلافا مؤلفة من الشباب النابهين النابغين الفاعلين المتمكنين..

نعم.. محوتم بحكمتكم وحنكتكم من خلال ذلك الصرح العلمي الشاهد تلكم الصورة النمطية السالبة عن المؤسَّسات العلميَّة الموسومة بالإسلاميَّة، فجعلتم منها مؤسَّسة إسلاميَّة جامعةً بين الأصالة والمعاصرة، بين الإبداع والابتكار، وبين الإنتاج والاختراع.. نال ولا يزال منسوبها ينالون عشرات الميداليات والجوائز في الابتكار والاختراع.. كان آخرها نيل أحدهم على ابتكاره جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام.. بل أبَيْتم أن تكون المؤسسة العلمية الإسلامية المعاصرة أقلَّ جمالا ورونقا من المؤسسات العلمية العالمية الرائدة.. فبَنَيْتُم بدعم منقطع النظير من قيادة ذلك البلد الواعد تلكم التحفة الجميلة في واد هادئٍ يتكامل فيه جمال الطبيعة مع جمال تضاريس الجبال المحيطة، ويتناغم حوله صفاء مياه الأنهار مع صفاء السماء عند الشروق والغروب..

نعم..كنتم، وحقيق عليكم أن تكونوا من أولئكم الزمرة النادرة الذين آمنوا بأنَّ التغيير المستديم لا يتم عن طريق العنف والقوَّة، بل عن طريق المحبة والرحمة.. وأنَّ الإصلاح المنشود يجب أن يستند إلى فكر سليم ووعي دقيق واستيعاب مكين للواقع، ويرتكز على الإيجابيَّة والشراكة والتعاون والتفاعل مع المحيط الداخلي والخارجي..

نعم..يا أبا أيمن كنتم وتستحقون أن تكونوا أحدًا من أولئكم الكوكبة النادرة الذين شخَّصوا بعمق واقتدار أسباب نكبات الأمَّة وانتكاساتها وارتكاساتها وأزماتها، والحال أنَّها خير أمَّة أخرجت للشهادة على الناس، ولإعمار الكون، ولإسعاد الإنسان في كل زمان ومكان..

نعم.. قدَّمتم وصفًا دقيقًا لما آل إليه أمر هذه الأمّة التي كانت ذات يوم أمة قائدة ورائدة، فأصبحت أمة منسحبة وتابعة، وأضحت أمَّة مستهلكة بعد أن كانت أمة منتجة، وغدت أمة مستسلمة بعد أن كانت أمة مقداما، وأمست أمَّة غائبة بعد أن كانت شاهدة، وباتت أمَّة باكية على الماضي بعد أن كانت أمَّة متحكمة في حاضرها ومستقبلها..

لعمر الله، كنتم، يا أبا أيمن، والتاريخ خير شاهد، من أولئكم الصفوة المباركة من مفكِّري الأمة المخلصين الذين أكَّدوا في الآفاق ونادوا في المحافل إلى أنَّ الأمَّة لا تنقصها الموارد، فقد منَّ الله عليها بموارد طبيعية وبشرية هائلة، ولا تفتقر إلى الوسائل، إذ إنها تتوافر على جميع الوسائل والإمكانات.. وإذ الأمر كذلك وهو كذلك، فإنَّ الداء كلَّ الداء كامنٌ في استيلاء ذلك الفكر الانسحابي العليل الذي افتعل ـ على حين غرَّة ـ صراعا حادًّا بين النقل والعقل، والحال أنَّهما يتكاملان ولا يتنافران، واختلق فصاما نَكِدًا بين الدنيا والآخرة، والحال أنَّهما تتداخلان ولا تتناثران، وافترض نزاعا مزعومًا بين العلم والدين، والحال أنَّهما يتصادقان ولا يتصادمان.. ومن ثمَّ، دعوتم وكنت محقين، قبل أربعين عامًا، إلى أنَّ الإصلاح كل الإصلاح ينبغي له أن ينطلق ولا محالة من إصلاح الفكر بإعادة بنائه بناء سليما يؤمن بالتكامل بين الثنائيات، ويرفض التقابل بينها.. بل إنَّكم نبذتم كل أشكال العنف سواء أكان نفسيًّا أم جسديًّا، وآمنتم أنَّ الإصلاح الحقيقيَّ هو ذلك الإصلاح الذي ينطلق من غرس قيم المحبة والرحمة والرفق والصدق والإيثار والشجاعة والمثابرة والإخلاص في نفس الطفل لتغدو تلكم القيم بعد جزءا لا يتجزأ من شخصيته، ومرجعا يرتد إليه عند تفاعله مع محيطه..

نَعمْ.. يا أبا أيمن.. لقد ترجمتم هذا التصور في واقع ملموس..عندما أنشأتم أول مدرسة إسلامية عالمية متكاملة من الروضة إلى المرحلة الثانوية تعنى بتطبيق تلك الرؤية وهاته الرسالة..

ثلاثون عاما تقريبا مضى على لقياكم.. كنتم فيها لي ولكثيرين من أبناء الأمَّة نموذجًا يحتذى به في الإنتاج والعمل والمثابرة والتفاؤل.. إِيْ والله..كنتم وستظلُّون نموذجا يضرب به المثل في الصدق والإخلاص والعفة والإيثار.. قضيتم عشر سنين ولم تتقاضوا فلسًا من راتبكم.. أَبَيْتُم أن تأخذوا قرشًا من الميزانية المرصودة لمكتب مدير الجامعة..

وإن أَنْسَ فلن أنسى ذلك اليوم العصيب في مطار كوالالمبور في 29 من شهر ديسمبر لعام 1998م عندما كنتم عائدين نهائيًّا إلى المملكة العربيَّة السعوديَّة، فسألكم مدير الشؤون الماليَّة السيد زيلان.. قائلاً: ماذا نفعل برواتبكم المتجمَّدة لدى الإدارة الماليَّة، وقد بلغت مئات الآلاف من سنوات عملكم مديرا للجامعة؟.. فأجابتموه، وابتسامتكم المعهودة تعلو محياكم، وإيثاركم المعروف يملأ جوانحكم.. اجعلوها أول تبرع لصندوق وقفيٍّ أنشأتموه لرعاية النابهين من الطلبة الوافدين الذين انقطعت بهم السبل، وضاقت عليهم الدنيا، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من أن يعودوا إلى بلادهم نتيجة توقف المؤنة والعون الذي كان يأتيهم ممن كان يجوب الآفاق من أجل جمع التبرعات لهم، إنَّه أبو أيمن..

نعم.. يا أبا أيمن، لم أتملك يومئذ دموعي وأنا آراكم تركبون الطائرة للعودة إلى بلاد الحرمين الشريفين..

نعم.. سِنُونٌ عشرٌ لا راتب ولا مكافأة ولا علاوات..

سِنُونٌ عشرٌ.. كنتم تتنقلون فيها في سيارة متواضعة..سِنُونٌ عشرٌ..ومساحة مكتبكم لا تتجاوز بضعة أمتار..

سِنُونٌ عشرٌ.. كنتم فيها آخر من يعود إلى منزله.. حتى قالت أم أيمن، حفظها الله، ذات يوم لصديقكم الوفيِّ السيد أنور إبراهيم: إنكم متزوِّجون أيضًا من الجامعة، لأنَّكم كنتم تعودون منها يوميا إلى بيتكم في أوقات متأخرة من الليل..

سِنُونٌ عشرٌ.. أثبتم فيه للعالم أجمع بأن الإصلاح ممكنٌ جدُّ ممكن، وأنَّ مستقبل الأمة واعدٌ وزاهرٌ، وأنَّ التغيير قادمٌ..

سِنُونٌ عشرٌ.. أعدتم بناء جامعة كان عدد طلابها وطالباتها بضعة مئات متوزعين على كليات ثلاث ذات برامج محدودة..إذ إنَّكم نهضتم بها حتى باتت غداة رحيلكم عنها جامعة عالمية متكاملة قُدِّر عدد طلابها وطالباتها عامئذ باثني عشر ألف طالب وطالبة، وبلغ عدد كلياتها اثنتي عشرة كلية، وأمست تقدم ما يزيد على مائة برنامج..سِنُونٌ عشرٌ.. وفَّرتم فيها فرصة التعليم لأكثر من خمسة آلاف طالب وطالبة من أبناء الأمَّة من جميع أنحاء البسيطة.. وقد كان عدد الطلبة الوافدين فيها قبيل وصولكم إليها أقل من مائة طالب وطالبة.. ولله الحمد حيث أصبح أولئكم الطلبة الذين نالوا شرف التعليم في تلك المؤسسة في مراكز القيادة والريادة في دولهم ومجتمعاتهم.. سِنُونٌ عشرٌ.. وفَّقكم الله فيها لغرس شجرة مباركة، أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء إن شاء الله..

يا والدي.. ويا أستاذي.. ويا والد الآلاف المؤلفة بل مئات الألوف ممن كان لكم فضل عليهم..

ثقوا تماما بأن ذكراهم ستبقى ما بقي في النفس ذرة من حياة.. وأنَّ فكركم النير الذي نذرتم حياتكم لنشره سيبقى حيًّا نابضا ما بقي في الأمَّة شباب كونتموهم.. وأنَّ أجركم سيبقى، إن شاء الله تعالى، جاريا ما أكل طائر من تلكم الأشجار المباركة التي غرستموها في قرية غومباك العامرة في ضاحية كوالالمبور..

عهدٌ علينا وعلى أبناء الأمَّة أن ندعو لكم بالرحمة والمغفرة والرضوان ما سجدنا لله سجدة.. وما صُمْنا لله صوما.. وهذا أقل ما تستحقونه..

يا أمَّنا..أمَّ أيمن..تقبَّلي مني عزائي وعزاء أسرتي التي كنت لها أمًّا وجدَّة.. وتقبَّلي عزاء الآلاف المؤلفة من خريجي وخريجات الجامعة، ومن منسوبيها الذين أوسعهم أبو أيمن المحبة والرعاية..إننا نعلم يقينا بأنه ما كان لأبي أيمن ليقدر على تحقيق ما حققه من إنجازات ونجاحات..لولا توفيق الله ثم دعمك وصبرك وصحبتك.. تقبلي عزاء كل من آمن وعمل ودافع عن إصلاح الفكر الإسلامي..

وتقبلوا أنتم، إخواني وأخواتي أبناء وبنات أبي أيمن، عزاءنا، وعزاء الأمة في هذا المصاب.. وتذكروا دومًا وأبدًا فضل الله وإحسانه عليكم أن جعلكم من ذريَّة أبي أيمن وأمّ أيمن.. فنِعمَ الأب أبو أيمن، ونِعْمَت الأمُّ أمُّ أيمن..

وعزاؤنا لكم أنتم أيضا، رفقاء الدرب، أبو محمد الوالد الدكتور أحمد توتونجي، والدكتور هشام الطالب، والدكتور عمر كاسولي، والسيد أنور إبراهيم، والدكتور فتحي ملكاوي، وغيرهم كثير ممن كانوا لأبي أيمن سندا ودعما، متعَّهم الله جميعًا بالصحة والعافية.. ورحم الله رفقاءهم السابقين، الدكتور إسماعيل الفاروقي، والدكتور طه العلواني، والدكتور جمال برزنجي، وغيرهم ممن سبقونا جميعًا إلى دار النعيم بإذن الله تعالى.

نعم.. عزاؤنا كل العزاء لبلاد الحرمين الشريفين – حرسها الله – حكومةً وشعبًا لرحيل أحد أبنائها الشرفاء الأوفياء الذين رفعوا رأسها عاليًا، وأثبتوا بجدارة واقتدار أنَّ الأمَّة ما زالت قادرة على إنجاب النبلاء والنجباء والمصلحين..

وعزاؤنا أيضًا لدولة ماليزيا الحبيبة التي فتحت لأبي أيمن بابها واسعًا، ووضعت تحت تصرفه مواردها وإمكاناتها ليحقِّق ما حقَّقه من إنجازات باهرة ونجاحات عظيمة..

وأخيرا وليس آخرا.. عزاؤنا لجميع منسوبي ذلك الصرح العلمي الخالد الذي يقف اليوم شامخًا وشاهدا على ما تركه أبو أيمن من إرث فكريٍّ وإداريِّ وتنظيميِّ ومعماريِّ.. أعنيكم جميعًا أنتم زملائي وزميلاتي ممن لا يزالون يخدمون الجامعة الإسلامية العالميَّة، أو ممن كان لهم ذات يوم حضور وإسهام في النهوض بهذه المؤسَّسة، حماها الله، وزادها توفيقًا وثباتًا، وتقدما، وتطورا..

يا إلهي..إليك نرفع أكف الاستكانة والضراعة والرجاء في هذا اليوم المشهود من أيامك، يوم الجمعة المبارك، ونحن مقبلون بعد قليل على الصلاة على جنازته بعد صلاة الجمعة، أن تتغمد روح والدنا وأستاذنا ومربِّينا، أبي أيمن، بواسع رحمتك، وكريم مغفرتك، وجليل عفوك.. اللهم وأسكنه في فسيح جنانك..

يا خالقنا ويا مبدعنا..نسألك سؤال المساكين المحتاجين الفقراء إليك أن تنوِّر له قبره، وتُيَّمن كتابه، وتحشرنا وإياه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون في النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

اللهم اجعله من أصحاب النفس المطئنة التي قلت فيهم وقولك حق كله:

《يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي》الفجر:27-30

《الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ》البقرة: 156

 

ابنكم/ قطب مصطفى سانو

من الحرم الشريف بمكة المكرمة

اقرأ ايضا

آخر الأخبار