بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن أمانة مجمع الفقه الإسلامي الدولي وهي تستهلّ موسم حج عام ١٤٣٦هـ، تستذكر ما خصّه المولى عز وجل موسم الحج من فضائل ربانية ومنح جليلة زمانا ومكانا،
والأشهر الحرم لها مهابة عظمى وتجلّة رفيعة، كما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [من الآية ٣٦، سورة التوبة]. والحرمان الشريفان والمشاعر المقدسة هي في الذروة من ذلك مكانا ومكانة.
ومكة هي أحب البقاع إلى الله عز وجل، وأعظمها فضلا وشرفاً، قال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ). [الآية 96، سورة آل عمران]، وقد ميزها الباري جل وعلا بالأمن والأمان، وجاء ذلك في آيات قرآنية عدة، قال سبحانه وتعالى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا). [الآية 97، سورة آل عمران] وقال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً). [من الآية 125 سورة البقرة]، وقال عز وجل: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، [57 سورة القصص]، وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ). [67، الروم]،
وزيادة في تعظيم شأن الحرم تكفّل الله عز وجل بحفظه، ومعاقبة كل من يحاول الاعتداء على أمنه وأمن أهله وقاصديه، وقد ضاعف سبحانه فيه الحسنات، وحاسب فيه على مجرد إرادة السيئات، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [25، سورة الحج]. وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: (لا تَزَالُ هذه الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ ما عَظَّمُوا هذه الْحُرْمَةَ حَقَّ تَعْظِيمِهَا، فإذا ضَيَّعُوا ذلك هَلَكُوا). [خرّجه ابن ماجه في سننه، كتاب المناسك].
وطيبة الطيية، قد ورد بشأنها -في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها وحرّمتُ المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ودعوتُ لها، في مدِّها وصاعِها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة). [أخرجه البخاري ومسلم].
وقد طلب منا الحقُّ عز وجل تعظيم حرماته وشعائره، قال عز من قائل: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ). [من الآية 30، سورة الحج]، وقال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[من الآية 32، سورة الحج].
وتزامنًا مع توافد ضيوف بيت الله الحرام إلى هذا البلد الأمين وإلى المشاعر المقدسة لأداء نسك الحج إجابة لقوله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [من الآية ٢٧، سورة الحج]، فإن أمانة مجمع الفقه الإسلامي الدولي باسم فقهاء الأمة الإسلامية وعلمائها، وانطلاقا من إيمانها بأن يؤدي كافة حجاج البيت العتيق -على اختلاف أجناسهم وألوانهم وبلدانهم ومذاهبهم- فريضتهم في طمأنينة كاملة وسكينة وافية، متمّمين لشعائر الحج؛ ملبّين طائفين راكعين ساجدين، متقبّلين، متطهّرين من الذنوب، يعودون سالمين غانمين إلى ديارهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، تود أمانة المجمع فيما يلي تذكير الحجاج بما يجب عليهم الالتزام به من آداب وفضائل، والانتهاء عنه من منهيات ومحاذير:
• أولا: الإقبال على الله عز وجل بصدق وإخلاص وإحسان في كل العبادات والمناسك والمناشط، مع الحرص على أدائها على الوجه الأكمل ما أمكن، والأخذ بالتيسير عند الضيق؛ رفعا للحرج، ودرءا للمشقة، هذا فضلا عن التحلي بمكارم الأخلاق، وحب الآخرين وإيثارهم، والتجمل بالصبر، وتزكية النفس وتهذيبها، والارتباط بحبل الإيمان، والتدثّر بلباس التقوى والصلاح.
• ثانيا: استحضار قدسية الزمان والمكان في النفوس مع كل تلبية ومع كل تسبيحة ومع كل عبادة ونسك.
• ثالثا: التطلع لشهود المنافع والتوسم لتحقيقها، المرادة في قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) [من الآية ٢٨، الحج]، وقد قال حبر الأمة عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (منافع الدنيا والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات…)،
إن منافع الدنيا تتمثل في تحقيق الخير للأمة في كل شؤون الحياة، ويكون على مستويين اثنين: على مستوى الأمة، وعلى مستوى الأفراد؛ أما على مستوى الأمة، فيكون من خلال أولي الأمر فيها من علماء وفقهاء وحكامٍ ومسؤولين، تشاورا وتخطيطا واستشرافا للحال والمستقبل، ومن خلال الإجراءات المتبعة والمناشط المتاحة. أما على مستوى الأفراد، فهي واضحة كما ذكرها ابن عباس رضي الله عنه، ولكل منها أحكامها الشرعية التي ينبغي الالتزام بها، ليفشوا الحق، وتقل الشكوى، ويمحق الظلم.
• رابعا: الحذر كل الحذر من ارتكاب أي محظور ينقص من أجر الحاج ويوهن حجه؛ ليحظى بنيل الغفران الذي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، [متفق عليه]، وعلى الحاج أن يستجيب لأوامر الله عز وجل: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [من الآية ١٩٧، سورة البقرة] والمراد بالفسوق: الخروج عن حدود الشرع بارتكاب أي فعل محظور. والمراد بالجدال: ما يجري بين الناس من منازعات ومخاصمات ومجادلات مما يكون في غير مرضاة الله، والانتهاء عن الفسوق والجدال هو من تعظيم شعائر الله وحرماته والوقوف عند حدوده. والغاية من ذكر الله عز وجل في الأيام المعلومات، هي: التوجيه والإعداد والتكوين؛ ليستقيم أمر المؤمن على المنهج الرباني.
• خامسا: الحرص على توفير الجو الآمن والسكينة المرجوة، والحذر من مزج أعمال الحج المشروعة بأعمال وأفعال ليست منها، لم ترد في كتاب الله عز وجل، ولا نقلت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلها سلف هذه الأمة من الصحابة ولا من التابعين، ولا مَن بعدهم، كإثارة النعرات، وتأجيج الخلافات، وترديد الشعارات، وبعث النزاعات، فهي تخدش الأمن المستتب في الحرمين الشريفين، وتزعج ضيوف الرحمن في الأيام المعلومات، وتصرفهم عن أداء المناسك في طمأنينة وراحة، وتشوش عليهم، وتعكر صفو الحج، وتصرفه عما شرع من أجله، وتجعله بعيدا كل البعد عن قدسيته وروحانيته، وتبطن الإساءة إلى الحرم، وكل ذلك منكرات مضلة وبدع طائشة.
• سادسا: التنبه الفطن والتيقظ الواعي للأفراد المنتمين إلى الفئات الضالة والشراذم الآثمة والجماعات الإرهابية، وذلك نظرا لما تعيشه بعض دولنا الإسلامية من اضطراب وفتن وقلاقل، فإنه قد يتسلل مع الحجاج إلى الديار المقدسة ممن يضمر الشر للعباد والبلاد، ويحمل أفكارا وعقائد تكفيرية، فيجب على كل امرئٍ توفرت لديه أية معلومات صحيحة تمس أمن الحجاج وأمن هذا البلد الأمين أن يقوم بإبلاغ الجهات والسلطات المختصة؛ تجنبيا للأماكن المقدسة أي إخلال بالأمن، ودرءًا عن ضيوف الرحمن كل ما لا يحمد عقباه من الحوادث، واحتساب الأجر في ذلك عند الباري عز وجل.
• سابعا: الأخذ بأسباب المحافظة على الصحة العامة والخاصة، والالتزام بالإرشادات والتعليمات الصحية الرسمية، مع أخذ التطعيمات الخاصة بموسم الحج، وإجراء الفحوصات الطبية اللازمة، والمحافظة على تناول الأدوية التي يستخدمها أصحاب الأمراض المزمنة.
والأخذ بكل ما يساعد الحجاج على رفع مستواهم الصحي، والعمل على تجنب الإصابة بالأمراض أو أي مخاطر صحية قبل وأثناء وبعد موسم الحج، مع الاستفادة من الفعاليات والمحاضرات الصحية عن الطرق الوقائية التي يجب اتباعها لتجنب الإصابة بأي أمراض أو أوبئة معدية، لا قدر الله، فعلى كل حاج أن يعمل على وقاية نفسه وغيره، وعليه أن يحرص على الإفصاح عما يعانيه من أمراض معدية، وفي حال الإصابة بأية أمراض معدية لا يرجى برؤه منها سريعا، فإن الحاج حكمه حكم المحصر، إن لم يكن قد سبق منه اشتراط، وعليه أن يخضع للترتيبات الصحية المفروضة من الجهات الصحية.
• ثامنا: الاستخدام الإيجابي المنضبط لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، والتأدب بآداب الإسلام فيها، من الالتزام بالصدق، وتحري الحقيقة، والاكتفاء بالمفيد من الأقوال والأخبار، وبالمأثور من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، والأحكام المتعلقة بالحج والعمرة، مع اجتناب اللهو والتطفل والإيذاء والترصد، وتناقل الشائعات المغرضة، والصور المفجعة، والأخبار المهيجة، وكل ما فيه تعكير لصفو الحجيج ولهدوئهم وسكينتهم، مع عدم الانشغال بها ممّا يفضي إلى التأثير على العبادات.
وفي هذا الصدد توصي أمانة المجمع وسائل الإعلام المحلية والإسلامية والعالمية إلى تسليط الضوء إيجابًا على هذا الموسم المهيب، وهذا الحشد النبيل، والحدث الجليل، وإبراز المحاسن التي يتسم بها الجمع الغفير من الحجاح القادمين من مشارق الأرض ومغاربها، واجتماعهم على المحبة والتآخي والتعاون والبر والتقوى والصلاح، خلوًا من المنكرات والمعاصي والإساءات، وهم يجتمعون على نيل رضوان الله وابتغاء مرضاته.
نسأل المولى عز وجل أن يجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا، ويتقبل من الجحاج حجهم ومن المعتمرين عمرتهم، ومن زوار مسجد نبيه صلى الله عليه وسلم زيارتهم.
وتنتهز أمانة المجمع هذه الفرصة لتعرب عن فائق إشادتها ووافر تقديرها للجهود العظيمة التي تبذلها حكومة المملكة العربية السعودية -بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية، وولي ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، أيدهم الله جميعا-، في خدمة الحرمين الشريفين وخدمة ضيوف بيت الله الحرام وزوار مسجد نبيه صلى الله عليه وسلم في كل المجالات، بما يمكن الحجاج من أداء هذا النسك الجليل بكل سهولة ويسر، والدعوات مرفوعة إلى الباري عز وجل أن يجزيهم خير الجزاء وأن يبارك في جهودهم ويوفقهم لاستمرار هذا العطاء.
وفي الوقت نفسه تثمن أمانة المجمع غاليا الجهود الموفقة التي يبذلها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة في التنظيم الرائع لشعائر الحج خدمة لدينه ووطنه وأمته، بارك الله في جهوده ووفقه دوما.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أمانة مجمع الفقه الإسلامي الدولي
اقرأ ايضا
آخر الأخبار