
على هامش زيارته الرسمية للمملكة المتحدة، ألقى معالي الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، الأمين العام للمجمع، كلمةً رئيسية في مجلس اللوردات البريطاني بمناسبة إطلاق ورقة السياسات حول التعدّدية والاستدامة، يوم الاثنين 19 من شهر محرم 1447هـ الموافق 14 من شهر يوليو 2025م.
واستهلّ معاليه خطابه بالتأكيد على الرمزية التاريخية لهذا المجلس العريق كمنارة للحرية والديمقراطية وسيادة القانون، كما نقل تحيّات علماء وفقهاء المسلمين من مختلف أنحاء العالم، أعضاء وخبراء مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي يعد المرجعية الفقهية العليا لـ57 دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، كما عبر عن شكره للسيدة سيسيل البليبلي، القنصل العام البريطاني في جدة، وللبروفيسورة حُسنى أحمد، على جهودهما في تعزيز الحوار بين الأديان والتنمية الشاملة، ودوْرهما البارز في تنظيم هذه الفعالية.
ثم تحدث عن التعدّدية بوصفها ضرورة لمواجهة أزمات العصر، أوضح فيها أن موضوع التعددية والاستدامة ليس مجرد شعار مرحلي، بل ضرورة وجوديّة في عالم يمُوج بالصراعات والنزاعات والتدهور البيئي. مشيرًا إلى أن البشرية بحاجة ماسّة لاستعادة أرضية أخلاقية مشتركة لمواجهة التحديات والاضطرابات المعاصرة، من خلال تفعيل دور الأديان بوصفها منظومات أخلاقية مُلزِمة متجذّرة في الضمير الإنساني، تتجاوز كونها هداية روحية فحسب.
كما أبرز في كلمته فشل النهج الأُحادي في التصدّي للانقسامات والصراعات العالمية التي أثبتت التجربة أن هَيْمنة قوة واحدة أو أيديولوجية واحدة عجزت عن ضمان السِّلم أو صوْن كرامة الإنسان أو تحقيق تنمية عادلة بمفردها. لذلك دعا إلى صياغة ميثاق أخلاقي عالمي جديد يقوم على التعاون والعدالة، موجَّه بالبصيرة والرحمة، ومُستلهَم من إنسانيّتنا المشتركة.
وشدّد معاليه على أن التقاليد الدينية تحضّ البشر على تجاوز الأنا، والمنافسة الضيّقة، للسمُوّ إلى قيَم الرحمة والتضامن والسلام، معتبرًا أن النظام العالمي العادل التعدُّدي القائم على التعاون والمسؤولية الأخلاقية لم يعُد خيارًا استراتيجيًّا فحسب، بل بات المسار الوجودي الأوْحد لمواجهة أزمات هذا العصر المركّبة.
وحول القيَم الإسلامية ومبادئ الفقه الإسلامي لترسيخ التعدّدية أوضح معاليه أن التعدّدية في المنظور الإسلامي، تستند إلى منظومة من القيَم الإلهية الملزِمة التي تُعلي من الشأن الإنساني، مسلّطًا الضوء على عدد من القيَم الإسلامية العُليا التي تشكّل إطارًا أخلاقيًّا للتعددية، ومنها:
- الرحمة: قيمة تتّسع لكل المخلوقات، لقوله تعالى: «ورحمتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ» (الأعراف: 156)، مؤكدًا أن الشريعة ترى الرحمة أساسًا للعلاقات الإنسانية.
- العدالة: تتبوّأ مركز القلب في الحوْكمة الأخلاقيّة، وتفرض الإنصاف والمساءلة وحماية الحقوق، لقوله تعالى: «يآ أيُّها الذين آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بالقِسطِ شُهداءَ للهِ ولَوْ على أنفُسِكُم…» (النساء: 135)، للدلالة على عالميّة مبدأ العدل ووُجوبه.
- التضامُن: يوجب التعاون على البِرِّ والتقْوى والامتناع عن الإثم والعُدوان، تطبيقًا لقوله تعالى: «وتَعاوَنُوا على البِرِّ والتقْوى، ولا تَعاوَنُوا على الإثْمِ والعُدْوان» (المائدة: 2)، هذه القيمة تحضُّ على نُصرة الخير المشترَك ونَبْذِ الظلْم.
- الشورى: تُعلي من شأن المشاركة الواسعة والقرار الجماعي القائم على الاحترام المتبادَل والحكمة الجماعيّة، مصداقًا لقوله تعالى: «وشاوِرْهُم في الأمْر» (آل عمران: 159). فالتشاوُر ضمانٌ للتعدّدية في صُنع القرار.
- الاستخلاف (الاستدامة): تُقرّ بمسؤوليتنا الجماعية في إعمار الأرض وحفْظها للأجيال القادمة، استنادًا لقوله تعالى: «إني جاعلٌ في الأرض خليفةً» (البقرة: 30)، فالبَشر “خُلفاء” مسؤولون عن تحقيق التنمية المستدامة ورعاية البيئة.
- الكرامة الإنسانية: أكّد أن الإسلامَ يكرِّمُ الإنسانَ دون تمْييز في الأصل أو الدين أو الثقافة، مستشهدًا بقوله تعالى: «ولقد كرَّمْنا بني آدمَ» (الإسراء: 70)، فصيانةُ كرامة الإنسان تمثّل غايةً أخلاقية مشترَكة تتشاركها الأديان.

وأوضح معاليه أن هذه القيَم العليا تدعمها مجموعة من القواعد الفقهية الكلّيّة التي تؤطِّر التعدّدية بوصفها واجبًا أخلاقيًّا، ومن تلك القواعد: “الضرَر يُزالُ”، والتي تُلزِم بالجُهد الجماعي لدفع الأخطار عن الصحة العامة والبيئة والأمن العالمي، وقاعدة “المصلحة العامةُ مقدَّمةٌ على المصلحة الخاصة”، وقاعدة “حيثما تكون المصلحة فثَمَّ شرعُ اللهِ”، وكذلك قاعدة “تصرُّف الإمام مَنُوطٌ بالمصلحة” وغيرها. وأفاد بأن جميع هذه القواعد تحمِّل المجتمعات مسؤوليةً مشتركة إزاء الأزمات العابرة للحدود. وبناءً على ذلك، شدّد على أن التعددية المنضبطة بالمصلحة العامة ليست مباحة شرعًا فحسب، بل واجبة دِيانةً، مستشهدًا بقاعدة أصولية شهيرة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ”. كما أشار إلى أن الشريعة الإسلامية تعتدُّ بخمسة مقاصد كلية تُشكّل الغايات العليا للتشريع الإسلامي، وهي: حفظ الدين، وحفظ النفْس (الحياة)، وحفظ العقل، وحفظ النسل (الأسرة)، وحفظ المال. ورأى أنه لا شك أن استحضار هذه المقاصد ودمجها في بنية منظومة التعاون الدولي سيشكل بوصلة أخلاقية لمعالجة جذور الظلم والصراع والاحتراب والتدهْوُر البيئي. فمراعاة هذه المقاصد من قِبَل صُنّاع القرار كفيلٌ بتمكين كل فرد من اللّحاق برَكْب الأمن والاستقرار والازدهار، وتجسيد شعار “لا يُتركُ أحدٌ خَلْفَ الرَّكْب” كواقع ملموس.
وحول مفهوم الاستدامة و”عدم ترك أحد خَلْفَ الرَّكْب” أوضح معاليه في كلمته على مفهوم الاستدامة، معتبرًا إيّاه تجسيدًا للأخلاق عبر الأجيال، معرِّفًا الاستدامة بأنها: «القدرة على تلبية حاجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها». فهي توازن دقيق بين حماية البيئة والنموّ الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، بهدف ازدهار الإنسان وصوْن الكوكب للأبناء والأحفاد.
كما تطرّق إلى الالتزام العالمي “عدم تَركِ أحدٍ خَلْفَ الرَّكْب” الذي تتبنّاه ورقة السياسات المطروحة، موضحًا أنه ليس مجرد هدف تنموِيّ، بل مقياس أخلاقي ونداءٌ عميق يدعو للاستماع إلى صوت المهمَّشين، والدفاع عن المظلومين، ورفع صوت المَنْسِيِّين.
وأكد معاليه أنه لا مكان أَولى بتجسيد هذا النداء العالمي من قطاع غزة الذي يرزح تحت نِير القصف والقتل والتجويع والتدمير، ووصف ما يحدث في غزة الجريحة بأنه “كارثة إنسانية مستمرة”، مشيرًا إلى ما يتعرض له الشعب الفلسطيني هناك من ظُلم منهجي يمثل فشَلًا أخلاقيًّا مُدوِّيًا للمجتمع الدولي. فالمنازل والمدارس والأرواح تُدمَّر جهارًا نهارًا على مَرأى ومَسمَع عالم يلُوذ بصَمْتٍ مُريب، فيما لا تزال النساء والأطفال وكبار السن يعانون معاناةً “لا مثيل لها في التاريخ” في تحدٍّ صارخٍ مِن قِبَل قِوى الاحتلال الغاشم لكل القوانين الدولية وكل مبادئ الإنسانية، كما شَدّد أمامَ الحضور على أن البرلمان البريطاني العريق يتحمّل مسؤولية تاريخية وأخلاقية للمطالبة بحلٍّ عادل وشامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حلٍّ يقوم على القانون الدولي والقرارات الأُمميّة، ويرتكز إلى قيمة العدالة وإنسانيّتنا المشتركة. ورأى أن مِثل هذا الحل المنتظَر منذ عقود لا يحقق السلام المنشود لشعب أنهَكَتْه المعاناة فحسب، بل يُعيد الثقةَ أيضًا في النظام العالمي التعدّدي ذاته.

وفي ختام كلمته، أكد معاليه التزام مجمع الفقه الإسلامي الدولي الثابت بالقيَم والأخلاقيّات المُشار إليها آنِفًا في كافة قراراته وتوصياته، وبصفته هيئةً فقهيةً عالميةً تمثّل 57 دولة عضوًا في منظمة التعاون الإسلامي، وإن المجمع يضْطَلع بمسؤولية تقديم الحلول الشرعية الناجعة للتحديات العالمية المعاصرة والنوازل المستجدة، من البيوتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي إلى العدالة الاقتصادية وحماية البيئة، وكل ذلك انطلاقًا واستنادًا إلى مقاصد الشريعة الإسلامية العليا.
وأوضح أن المجمع -الذي يحظى بثقة أكثر من 1.9 مليار مسلم حول العالم- يُعد مرجعيةً علمية عالمية رائدة في تعزيز الوسطية والاعتدال والتسامح واحترام التنوّع الديني والثقافي والحضاري. مشيرًا إلى أنه أبرم العديد من اتفاقيات التعاون مع مؤسسات دينية وأكاديمية دولية لتعزيز تلك القيَم المشتركة، ومن بين الشراكات التي ذكرها: المركز الثقافي الإسلامي في لندن، وجامعة برمنغهام، ومسجد ريجنت بارك التاريخي في المملكة المتحدة. وتهدف هذه الشراكات إلى نشر الاعتدال ومكافحة التطرف وترسيخ التعايش السلمي عبر التعليم والحوار والمشاركة المجتمعية.
وفي خلاصة خطابه أمام مجلس اللوردات، أكد معاليه أن التعددية المدعومة بقيَم أخلاقية والاستدامة المسؤولة تشكّلان الطريق الأنْجَع لمعالجة أزمات العصر المركَّبة، داعيًا إلى تضافر الجهود الدولية على أساس تلك القيَم الإنسانية المشتركة لضمان عالَم أكثر عدلًا وسلامًا للجميع، دون أن يتخلَّف أحدٌ عن الرَّكْب.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار










