ألقى معالي الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، صباح يوم الاثنين 02 من شهر صفر لعام 1444هـ الموافق 29 من شهر أغسطس لعام 2022م بمقرّ كلية عبد الحميد أبو سليمان لمعارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، المحاضرة التذكارية السنوية الأولى عن المفكر الإسلامي الكبير الراحل المرحوم معالي الأستاذ الدكتور داتؤ عبد الحميد أبو سليمان، عفا الله عنه، وذلك تخليدا لإرثه الفكري المتميز، واعترافا بما قّدمه من مساهمات علمية بارزة وعطاءات فكرية قيّمة من أجل النهوض بالفكر الإسلامي، وتصحيح المفاهيم، وتمكين الأمة من إعادة عافيتها الحضارية، وريادتها المعرفية.
ويأتي تنظيم الجامعة هذه المناسبة العلمية الأولى غداة مرور عام على وفاة المرحوم في إطار سعيها من الاحتفاء والاعتراف بمساهمات الراحل الخالدة في مسيرة تطوير الجامعة والارتقاء بها خلال إدارته المتميزة وإشرافه المباشر على بناء المدينة الجامعية المتكاملة الجذابة في وادي قرية غومباك بضاحية مدينة كوالالمبور بماليزيا، وذلك خلال عقد من الزمن، كما تسعى الجامعة والمعهد العالمي للفكر الإسلامي من تنظيم سلسلة من المحاضرات والندوات والمؤتمرات العلمية حول مساهمات المرحوم تخليدا لذكراه الطيبة، وتعريفا به، ونشرا لأفكاره التنويرية على أوسع نطاق ممكن من أجل تعميم الاستفادة منها على مستوى العالم الإسلامي وخارجه.
وقد اختارت الجامعة والمعهد معالي الأمين العام للمجمع ليكون الشخصية العلمية البارزة الأولى لإطلاق هذه السلسلة السنوية وذلك لعدّة اعتبارات موضوعية أهمّها ما يتميّز به معاليه من مكانة علمية دولية بارزة في مجال الإصلاح الفكري، والدعوة إلى الوسطية، ونشر ثقافة الاعتدال والتسامح والتعايش، وكون معاليه ممن عاصر الراحل، وعمل معه لسنوات، وكان قريبا منه، ومحل ثقة كبيرة لديه.
هذا وقد انطلق الحفل بكلمة ترحيبية لسعادة الأستاذ الدكتور شكران عبد الرحمن، عميد كلية عبد الحميد أبو سليمان لمعارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة، تحدث فيها عن مناقب الفقيد وأهمية إحياء تراثه الفكري الغزير ونشره باستمرار حتى تستفيد منه الأجيال القادمة التي لم تحظ بفرصة لقائه والتعرّف عليه. كما أوضح بأنّ اختيار الجامعة والمعهد لمعالي الأمين العام للمجمع ليكون المتحدث الرئيس اليوم هو أنسب قرار لما يتمتع به معاليه من غزارة في الفكر، وعمق في الطرح، وسمعة دولية واسعة إلى جانب معرفته الشخصية الجيدة بالراحل وبأفكاره، حيث إنه كان من أولئك الأشخاص الذين كانوا قريبين منه خلال فترة إدارته، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. ثم تحدث سعادة الأستاذ الدكتور جميل عثمان، مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي لشرق وجنوب شرق آسيا، مشيدا بالراحل وعزاء الأمة بفقده ورحيله، منوها إلى أهمية هذه المناسبة بوصفها حدثا أكاديميا خاصا يسعى المعهد العالمي للفكر الإسلامي خلاله إلى نشر أفكار المغفور له، كما عبر عن سروره البالغ بأن يكون معالي الأمين العام للمجمع المتحدث الرئيس في هذه المحاضرة لما لمعاليه من مكانة وسمعة عظيمتين، ومعرفة دقيقة وواسعة بالمرحوم، حيث إنه كان من المقربين الذين يعرفون المغفور له معرفة واسعة، متمنيا أن تتابع المحاضرات واللقاءات للتعريف بأفكار المرحوم.
ثم ألقى معاليه محاضرته التي استهلها بالتعبير عن شكره الجزيل وامتنانه العظيم لإدارة الجامعة والمعهد العالمي للفكر الإسلامي على تشريفهم إياه بإلقاء أول محاضرة تذكارية من المحاضرات السنوية حول شخصية وأفكار الراحل العظيم الأستاذ الدكتور عبد الحميد أبو سليمان رحمه الله. كما عبّر معاليه عن سعادته البالغة بوجوده هذا الصباح من جديد في هذا الصرح العلمي الكبير الذي درّس فيه لحوالي عقدين من الزمن، عاصر خلاله نخبة متميزة من الأكاديميين وكوكبة طيبة من الباحثين والطلبة، وواكب تطور الجامعة من مؤسسة متواضعة إلى قطب علمي وصرح أكاديمي بارز في ماليزيا ومنطقة جنوب شرق آسيا والعالم.
وأوضح معاليه أن مساهمات الراحل الفكرية والإدارية المتميزة كانت أحد دعائم التطور والتقدم الذي شهدته الجامعة طوال فترة عمله بها وإدارته لها، مشيدا بتسمية هذه الكلية المباركة باسم المرحوم تقديرا لما تركه من بصمات واضحة على جميع مناحي الحياة الأكاديمية والفكرية بالجامعة، وتعبيرا عن امتنان الإطار الإداري والأكاديمي للجامعة لهذا المفكر المخلص المثابر. وأجزل معاليه الشكر والتقدير والامتنان والعرفان لدولة ماليزيا حكومة وشعبا على ما خصوا به المرحوم من حفاوة وتكريم ورعاية، حيث وفروا له الجو الهادئ والدعم الكبير من أجل تمكينه من الإصلاحات والتغييرات الجذرية التي قام بها خلال فترة إدارته للجامعة. كما أثنى معاليه على رسالة المعهد العالمي للفكر الإسلامي بوصفه مؤسسة فكرية رائدة ساهمت ولا تزال تساهم في إعادة تشكيل العقل المسلم، ولم يتغير مؤسسوها ولم يبدلوا تبديلا، بل كانوا كما قال الله تعالى ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا)) الأحزاب 23. إنهم لم يتغيروا ولم تؤثر فيهم الأحداث ولا يزالون على العهد والوعد سائرين.
ثم تحدّث معاليه عن حياة الراحل الأكاديمية بجميع تفاصيلها مبرزا بالخصوص دوره الريادي في تطوير هذه الجامعة وتعزيز مكانتها ضمن أبرز الجامعات في ماليزيا وآسيا بصفة عامة. كما تناول بالطرح والتحليل خلال المحاضرة أهمّ أفكار الراحل التي تركزت على تشخيص دقيق غير مسبوق للأزمة التي ألمت بالأمة منذ زمن بعيد، وتتمثل في الأزمة الفكرية الحادة التي تعد الأساس والمسؤولة عن بقية الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ كما سلط معاليه الضوء على ما قدمه المغفور له من رؤية واضحة لعلاج الأزمة الفكرية متمثلة في معالجة جذور الأزمة التي افتعلت صراعا مزعوعا بين الوحي والعقل وبين العلة والمعلول، وأحدثت فصاما بين العلوم بتقسيمها إلى علوم دين وعلوم دنيا، مما يتطلب اليوم تعزيز الوعي بأهمية إسلامية المعرفة، وتكامل العلوم والقيم، تمكينا للأمة من النهوض والإسهام الجاد في بناء الحضارة الإنسانية المتعثرة نتيجة غياب الأمة وتخلفها وانسحابها. ثم أوضح معاليه ما تميز به طرح المرحوم حول الإصلاح التربوي والتعليمي للمناهج، وما لذلك من أثر بالغ في تحقيق النهضة الشاملة المنشودة للأمة الإسلامية والبشرية عموما، مشيرا إلى أن المرحوم كان يرى إصلاح التعليم حجر الزاوية والأساس المتين الذي ينبغي أن تنطلق منه سائر مشاريع الإصلاح التي تهدف إلى علاج الأزمة الفكرية التي تقف سببا وجيها لتخلف الأمة وتأخرها، كما كان المرحوم يرى أن التنشئة الأبوية النقية للطفل المنبثقة عن غرس قيم الحب والصدق والإخلاص والشجاعة في نفس الطفل في وقت مبكر بديلا عن الخوف والترهيب تعد العامل الأساس لإعداد جيل واثق قوي عامل وقادر على الإسهام الإيجابي في صنع الحضارة وبناء الأوطان. وأشار معاليه إلى أسباب تركيز المرحوم في طروحاته الفكرية على إصلاح الفكر الإسلامي، وعلاج أزمة العقل المسلم، وإصلاح التعليم بشقيه العام والعالي، فضلا عن ضرورة الابتعاد عن العنف الأسري، وفشل استيراد الحلول خارج البيئة الإسلامية، وضرورة تعزيز الوعي بتكامل العلوم مع الابتعاد عن الفصل بينها، وضرورة الإيمان بعدم وجود تنافر وتعارض بين النقل الصحيح والعقل السليم.
وختم معاليه محاضرته بالإشادة بالجانب الإنساني الكبير والإخلاص العميق الذي كان يتميز به المرحوم، رحمه الله، حيث إنه كان أبا رؤوفا كريما، وكان محبا للأمة وشبابها وشعوبها، كما كان دائم التفاؤل بمستقبل زاهر للأمة، وأن حاجة الإنسانية إلى رسالة الإسلام تزداد يوما بعد يوم، مما يملي على الغيارى القيام بواجب الإصلاح والتوجيه والتسديد.
ودعا معاليه في نهاية المحاضرة لرفقاء الدرب للمرحوم الذين سبقوه إلى دار النعيم، ومن بقي منهم على قيد الحياة، داعيا الله أن يتقبل المتوفين في جنات الخلد، ويمن على الأحياء بالصحة والعافية.
هذا وقد استمتع الحضور بما احتوت عليه المحاضرة من معلومات دقيقة عن فكر ورؤية الفقيد وطالبوا معاليه بتكرار التجربة من خلال زيارة الجامعة في المستقبل لإلقاء المزيد من المحاضرات والدروس حول هذا الموضوع وغيره.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار