ألقى معالي الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، الأمين العام للمجمع، يوم الخميس 10 من شهر ذي الحجة لعام 1444هـ الموافق 29 من شهر يونيو لعام 2023م خطبة عيد الأضحى المبارك بجامع السلطان أحمد شاه بالجامعة الإسلامية العالمية بالعاصمة الماليزية كوالالمبور.
هذا، وقد تناول معاليه في خطبته حديثا مركزا عن بر الوالدين ومبادئ التعامل معهما مستهلا بتحليل علمي دقيق لدلالات قصة قرآنية جميلة نقلت لنا أروع مثال للاستسلام والانقياد لله من قبل سيدنا إبراهيم، عليه السلام، عندما قال لابنه الوحيد آنذاك: إني أرى في المنام أني أذبحك، طاعة لله جل جلاله، كما نقلت إلينا تلك القصة أروع مثال لطاعة الوالدين عندما قال سيدنا إسماعيل، عليه السلام، لأبيه افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، حيث إنه لم يناقش أباه، ولم يتهمه بالخرف أو الوهم، وعلق معاليه على هذه القصة قائلًا:“..أيها الموحدون تعالوا معنا لنتدبر هنيهةً آيةً كريمةً من آي الذكر الحكيم في سورة الصَّافات، وهي قوله عزَّ شأنه (( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)).. هذه الآية تلخص لنا قصةً من أروع القِصَص وأنفسِها وأعظمِهما، قصَّة لها فصلان، أولهما تعبيرٌ عميقٌ عن استسلام وانقياد من لدن عبدٍ لمولاه خالق الكون ومدبره، والواهب المعطي، وأما الفصل الثاني، فحديثٌ جليلٌ عن طاعة وثقة ووفاء واحترام وتقدير من لدن ابنٍ مطيعٍ واثقٍ ومحترمٍ لأبٍ كان سببا في وجوده.. إنَّ ذلك العبد الحليم الأوَّاه هو سيدنا إبراهيم عليه السلام، وأما ذلك الابن البارُّ الذي يضرب به المثل في بر الوالدين، هو جدُّ نبينا سيدُنا إسماعيل، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، ويتكامل فصلا القصَّة في تناغم وانسجام، ذلك لأنَّهما يلتقيان في كون كل واحدٍ منهما عبارة عن تضحية الإنسان بأغلى ما يملكه الإنسان طاعةً، وعرفانا، فقد كان سيدنا إسماعيل، عليه السلام، الشاب اليافع، الابن الوحيد آنئذ، أغلى ما يملكه سيدنا إبراهيم الذي كان قد بلغ يومئذٍ تسعين عامًا من العمر، فقرر أن يمتثل لأمر ربه طاعة وانقيادا (( يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك)). وبالنسبة لسيدنا إسماعيل، عليه السلام، فقبل أن يضحِّي هوالآخر بأغلى ما يملكه، إنه حياته، طاعة لوالده الذي قال له في ثقة وثبات واحترام.. ((يا أبت.. افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين))، أي طاعة هذه..!! أي ثقة هذه..!! أي احترام هذا..!! لا نقاش، لا تردد، لا توجس، لا اعتراض، لا مراوغة، لا مكابرة.. وكانت النتيجة أن نال نبي الله إبراهيم ثناء الربِّ الشَّكور الرؤوف، واستحق بجدارة واقتدار تلك الصفة العظيمة الخالدة إنها صفة خليل الله الذي ليس في محبته خلل، وقد اصطفاه الله، وأحبَّه محبَّة تامَّة ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)).
وأما سيدنا إسماعيل، الابن البرُّ البارُّ المطيع المخلص، فقد كافأه ذو العزة والجلال، فجعله رسولا نبيًّا، ((وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ إِسْمَٰعِيلَ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا** وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)).“
وبعد أن قدَّم معاليه هذه القصَّة المؤثِّرة والمعبِّرة، أردف قائلًا: “إنَّ نظرة عجلى فيما نقرأه ونسمعه اليوم من أخبار مفزعة يندى لها الجبين عن تعامل الأبناء والبنات مع الآباء والأمهات في بيوتنا ومجتمعاتنا والعالم من حولنا، وما نشاهده من أحداث مفظعة تدمي القلوب من عقوق الأبناء والبنات، وتطاولهم، وتكابرهم، وعنادهم.. ما أكثر أولئكم الآباءَ والأمهاتِ الذين يشكون من جحود الأبناء والبنات، ويعانون من تناكرهم، وتجاسرهم، وجنوحهم!! إنَّهم منشغلون عن أخبار آبائهم وأمهاتهم لا يسألون عنهم ولا يهتمون بهم، ولا يبالون بهم، ولا بأحوالهم، شغلتهم الدنيا الدنية عمن كانوا سببا في وجودهم، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل نجاحهم، وضحوا بصحتهم وثروتهم وحياتهم من أجلهم!!.. نعم قابلوا كل ذلك بتناكر دائم، واستكبار مستديم، لا يطيقون سماع نصائحهم، ولا يلقون بالا بتوجيهاتهم.. يدعون زورا وبهتانا بأنهم قد أصبحوا رجالا ونساء.. فليسوا بحاجة إلى نصائح..!! وليسوا مستعدين لتقبل التوجيهات..!! عقوق ليس بعده عقوق، نكران ليس بعده نكران، وما دروا، وليتهم دروا أنهم كما يدينون يدانون، وأنهم لن ينفلتوا ما أعده الله للعاقِّين والعاقَّات من خزي وهوان إن عاجلا أو آجلا..“ ودعا معاليه أولئك الأبناء والبنات الذين يعقون آباءهم وأمهاتهم قائلًا: “..أيها الأبناء وأيتها البنات التائهون العاقُّون..عودوا إلى رشدكم قبل فوات الأوان.. توبوا إلى الله توبةً نصوحًا، ارجعوا إلى آبائكم وأمهاتكم، تداركوا أخطاءكم قبل أن تفاجؤوا برحيل آبائكم وأمهاتكم عن دنياكم، فيومئذ ستندمون على فراقهم، وستحزنون على تقصيركم تجاههم..“.. وختم خطبته بالتذكير بالالتزام بما ورد في سورة الإسراء من مبادئ مهمة عند التعامل مع الوالدين، وقال: “ اقرؤا صباحا مساء، ورددوا ليلا ونهارا قوله تعالى: (( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا..وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا))، تذكروا واحفظوا هذه المبادئ الستة عند تعاملكم مع الآباء والأمهات، وهي:
المبدأ الأول: الإحسان إليهما قولا وفعلا وتصرفا وهو اسم جامع لكل ما يحبه ويرضاه الوالدان.. والمبدأ الثاني: الابتعاد عن تأفيفهما والتضجر من تصرفاتهما..والمبدأ الثالث: الابتعاد عن نهرهما، وزجرهما، وجرح مشاعرهما.. والمبدأ الرابع: مخاطبتهما بالقول الكريم في كل حين.. والمبدأ الخامس: التواضع لهما، والابتعاد عن التكبر عليهما.. والمبدأ السادس: استدامة الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة والرضوان..
إنكم بهذه المبادئ ستنالون ما ناله نبيّ الله ورسوله سيدنا إسماعيل، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.. لنعود جميعا إلى بيوتنا اليوم وكلنا إسماعيل، طوبى لمن حافظ منَّا على هذه المبادئ، وعضَّ عليها بالنواجذ، فهي النجاة، وهي السعادة، وهي الفلاح والصلاح في الدارين..“
هذا، وقد لقيت الخطبة استحسانا، وتركت آثارا في النفوس، وذرفت دموع كثير ممن استمعوا إلى الخطبة. ومما يجدر ذكره أن معاليه ألقى الخطبة بثلاث لغات، حيث ألقى الخطبة الأولى باللغة العربية، واللغة الإنجليزية، وأما الخطبة الثانية، فقد ألقاها بلغة مالايو.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار