كلمة معالي الشيخ صالح بن حميد في تأبين معالي الدكتور عبدالسلام العبادي رحمه الله

 

الحمد لله العلي الأعلى، خلق فأحيا، وحكم بالموت والفناء، وقدر البعث إلى دار الجزاء؛ لتُجزى كل نفس بما تسعى. أحمده حمد مَن صبر على القضاء، وأشكره شكر مَن رضي فنال ثواب الرضا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، ومَن سار على نهجه فاهتدى واقتدى.

وبعد، فإن الله سبحانه بحكمته أنفذ في كل مخلوق أمره، وقدر لكل إنسان رزقه وأجله وعمره، وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأقدار ومجريات الأمور، جعل لكل شيء أجلاً، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، بيده أزمّة الأمور ونواصي العبيد، له العزة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وهو الحي الذي لا يموت، لا ملجأ ولا ملتجأ منه إلا إليه، قائم على كل نفس بما كسبت، ورقيب على كل جارحة بما اجترحت، أين منه المفر؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}

إنه الموت، مرحلة من مراحل هذا الوجود، وهو حق لا دافع له؛ فالآجال مضروبة، والأنفاس محدودة، والأيام معدودة، والأعمال مكتوبة، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}

الموت أكبر واعظ، قدّره الله على خلقه، فهو حتم لا محيص عنه، ولا مفر منه، من حان أجله وصل إليه ولو كان في بطون الأودية، أو على رؤوس الجبال، أو تحت الماء، أو في جو السماء.. ولو كان في بروج مشيدة، أو حصون محصنة.

واستحضار قرب الرحيل وسرعته وانقضاء الحياة من أنفع الأدوية للقلوب؛ فإنه يبعث على انتهاز فرص الخير والمبادرة بالأعمال الصالحات قبل طي الصحف والسجلات.

يُقال كل ذلك وقد فقدنا هذه الأيام أخاً عزيزاً، وزميلاً كريماً، وعالماً فاضلاً، وقامة علمية شامخة.

إنه أخي وعزيزي معالي الأستاذ الدكتور/ عبدالسلام داود العبادي، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي؛ فقد وافته المنية، وحلّ بساحته القدر المحتوم صباح يوم الاثنين العشرين من شهر ذي الحجة عام 1441هـ، الذي يوافق العاشر من شهر أغسطس عام 2020م، في مدينة جدة.

وقد حلّ هذا المصاب بنا فشغلنا، ونزل علينا هذا القضاء فأذهلنا، وإنه رزء زاد في الأشجان، وابتلاء أورث الأحزان، ولكن نحمد الله أن جعلنا مسلمين، نتأسى بتوجيه سيدنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام ونقول: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراق أخينا عبدالسلام لمحزونون، رحمه الله رحمةً واسعة، وأسكنه فسيح جناته. وقد صُلي عليه في مكة المكرمة، ودُفن في مقابر المعلاة هناك -رحمه الله-.

وهذه وقفات مع مسيرته العلمية والإدارية الحافلة -رحمه الله-:

 

الوقفة الأولى: في نشأته ووظائفه

وُلد -رحمه الله- في عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية عمّان في 10 مارس 1943م، وترعرع فيها، وتدرج في تحصيله العلم الشرعي في عمّان فأكمل دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية في المدرسة العلوية وكلية الحسين بعمّان سنة 1959م، ثم أكمل دراسته الجامعية الأولى في كلية الشريعة بجامعة دمشق سنة 1963م، ثم حصل على الماجستير في الفقه المقارن بامتياز من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سنة 1967م، ثم حصل على الدكتوراه في الفقه المقارن بمرتبة الشرف الأولى مع التوجيه بطباعة الرسالة وتبادلها مع الجامعات العالمية من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سنة 1972م -وسوف يكون لنا وقفة مع هذه الرسالة- ثم تم تعيينه في عدد من المناصب المرموقة، من أبرزها:

  • عضو هيئة تدريس في الجامعة الأردنية، كلية الشريعة، سنة 1972م – 1983م. وقد تولى فيها (رئاسة قسم الفقه والتشريع سنة 1975م – 1977م)، (عمادة شؤون الطلبة سنة 1978م – 1982م). كما قام في الجامعة بتدريس مواد: نظام الإسلام، والاقتصاد الإسلامي، والفقه المقارن وفقه العبادات، وفقه المعاملات، وتاريخ التشريع، والمدخل الفقهي، والنظريات الفقهية.
  • وكيل وزارة الأوقاف (أمين عام لها) من سنة 1982م – 1988م.
  • وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية والدينية في المملكة الأردنية الهاشمية من سنة 1993م – 2001م.
  • رئيس مجلس أمناء جامعة آل البيت من سنة 2001م – 2004م.
  • رئيس جامعة آل البيت في 2004م – 2005م.
  • عُيّن وزيرًا للأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في 7 إبريل 2005م – 24 نوفمبر 2005م.
  • أعيد تعيينه رئيسًا لجامعة آل البيت في 8 يناير 2006م.
  • مستشار للشؤون الإسلامية والدينية في 2006م.
  • تم تعيينه أميناً عاماً لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي 2008م – 2009م.
  • تم تعيينه وزيراً للأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في سنة 2009م – 2013م.
  • أعيد تعيينه أميناً عاماً لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي في 1 أكتوبر 2015م حتى وافته المنية.
  • شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والندوات الأكاديمية في مجالات الفكر الإسلامي المعاصر والدعوة والتربية والاقتصاد الإسلامي والفقه والزكاة والحوار بين المذاهب والحوار الإسلامي المسيحي.

 

الوقفة الثانية: بحوثه ومؤلفاته

له -رحمه الله- عشرات البحوث والمؤلفات في قضايا الأمة الإسلامية والنوازل المختلفة، زادت على السبعين بحثاً وكتاباً في مجالات الشريعة المختلفة، من أبرزها:

  • دراسة مستفيضة عن الملكية في الشريعة الإسلامية، طبيعتها ووظيفتها وقيودها.. دراسة مقارنة بالقوانين الوضعية. وهي رسالة الدكتوراه سنة 1972م، وطُبعت سنة 1974م في ثلاثة مجلدات، مكتبة الأقصى، ثم أُعيدت طباعتها طبعات عدة.
  • الإيمان بين الآيات القرآنية والحقائق العلمية الطبعة الأولى سنة 1975م.
  • دور الاقتصاد الإسلامي في إحداث نهضة معاصرة مع آخرين، طبعته جمعية الدراسات والبحوث الإسلامية في عمّان 1980م.
  • الرعاية الأردنية الهاشمية للقدس والمقدسات الإسلامية فيها، الطبعة الأولى وزارة الشباب، الطبعة الثانية القوات المسلحة.
  • كتب التربية الإسلامية للمرحلة الثانوية مع آخرين في المملكة الأردنية الهاشمية، سنة 1976-1996م.
  • كتاب الثقافة الإسلامية لمعاهد المعلمين وعدد من كتب التربية الإسلامية في المدارس مع آخرين في سلطنة عُمان.
  • فقه المعاملات محاضرات ألقيت في معهد الدراسات المصرفية.
  • مضامين رسالة عمان إصدار جامعة آل البيت سنة 2008م.
  • كتاب دور مجمع الفقه الإسلامي الدولي في البناء الفكري والعملي للأمة سنة 2019م، الناشر دار أزهار الفكر للنشر والتوزيع عمّان – الأردن.
  • المؤسسة الوقفية المعاصرة بين التأصيل والتطوير سنة 2020م، الناشر دار أزهار الفكر للنشر والتوزيع – عمّان – الأردن.
  • المشروع النهضوي الحضاري الإسلامي، ومواجهة تحديات تجديد الفكر الإسلامي المعاصر ومعوقاته سنة 2020م، الناشر دار أزهار الفكر للنشر والتوزيع – عمّان – الأردن. وعشرات البحوث الأخرى.

 

الوقفة الثالثة: الأوسمة والجوائز

نال العديد من الأوسمة والجوائز المختلفة، منها:

  • وسام الكوكب الأردني من الدرجة الثانية سنة 1987م.
  • وسام الثقافة والعلوم من الطبقة الأولى جمهورية مصر العربية سنة 1992م.
  • وسام الجمهورية من الدرجة الثالثة جمهورية السودان الديمقراطية سنة 1992م.
  • وسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى سنة 1993م.
  • شهادة تقديرية بالدرجة الممتازة من منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1996م لدوره في مجال العمل الإسلامي المشترك ودعمه نشاطات المنظمة وبرامجها.
  • وسام الحسين بن طلال للعطاء المتميز سنة 2000م.
  • جائزة غاندي وكنج كير الدولية سنة 2003م.
  • الميدالية الفضية لمنظمة الحماية الدولية سنة 2004م.
  • كما حصل على شهادة بمنحه لقب فارس في مجال الحماية المدنية من المنظمة الدولية للحماية المدنية والدفاع المدني 2004م.
  • جائزة الدولة التقديرية والتشجيعية لعام 2006م في حقل العلوم الاجتماعية في مجال دراسات الفكر الإسلامي.
  • جائزة البنك الإسلامي للتنمية لسنة 2007م في مجال الاقتصاد الإسلامي.
  • وسام الاستقلال الأردني من الدرجة الأولى سنة 2016م.

 

الوقفة الرابعة: مكانة علمية فقهية شامخة

الأستاذ الدكتور عبدالسلام -رحمه الله- عُرف بعلميته الباحثة، ودأبه في التحصيل وتحقيق المسائل. ولعل ما كان في الوقفة الثانية من بيان آثاره العلمية ومؤلفاته خير دليل على هذه العقلية العلمية. ولا أجد شهادة في ذلك ولا أوضح دليل على هذا إلا ما ذكره شيوخ كبار من شيوخ الأزهر معروفون حينما قدموا تقريرهم العجيب عن رسالة الدكتوراه التي قدمها فضيلة الأستاذ الدكتور عبدالسلام.

وهم الشيخ محمد علي السايس، والشيخ عبدالله محمد عبدالنبي، والأستاذ الدكتور صوفي أبو طالب، والشيخ عبدالغني عبدالخالق؛ فقد قدموا لعميد كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر تقريراً وافياً مستوعباً كلّ نظيره في التقارير التي تقدم عن الرسائل والبحوث.

أقتطفُ منه نماذج فيها من الدلائل على عقلية الرجل، وطول نفسه في البحث، وعمق إدراكه في الفهم.. فقد قالوا:

إن هذه الرسالة بدون تردد لشيء مهم جديد، وعمل فذ طريف، غاية في القوة، ونهاية في الجودة.

وقد أجاد في صنع ذلك وأتقن، وأفاد وأحسن، ولقد وُفق صاحبها كل التوفيق في اختيار موضوعها، وإتقان صنعها، وجمع عناصرها، وتكون أجزائها، وترتيب أبوابها، وتحرير مباحثها، وحصر آرائها، وتقرير أدلتها. وكما وُفق في سائر مناقشاته وجميع اختياراته، وصوغ عباراته، فلم يدع مسألة خلافية إلا شرحها، وحرر محل النزاع فيها، وشرح الأقوال المتعلقة بها، وقرر أدلة كل منها، وناقش ما يستحق المناقشة، وقوّى ما يحتاج إلى التقوية، واختار ما ارتضاه عقله، وهداه إليه بحثه.

كل ذلك يدل على سعة اطلاعه، وكمال تتبعه واستقرائه، مما يدل على صادق خبرته، وإتقان صنعته.

وقد ناقشته اللجنة فوجدته راجح العقل، بيّن الفضل، غزير العلم، حاضر الذهن، دقيق الفهم، واعياً لدقائق كل ما نقله، مدركاً خفايا سائر ما حرره.

وقد بذل جهداً فائقاً جباراً في سبيل ما جمعه، وتحرير ما حرره، فقدم بحثاً جليلاً وكتاباً عظيماً وعملاً نبيلاً في سائر نواحيه، مفيداً فوائد جمة، لا توجد في غيره مجتمعة.

وهذه الرسالة في أعظم درجات القوة، وأرفع مراتب الامتياز، وإنها جديرة بكل تقدير وإعجاب، وكل إكبار وإعظام. بل قال بعض المناقشين: «إن الرسالة المعروضة علينا لا أقول من أجود ما أنتجته الجامعة، إنما أقول هي أجود ما أنتجته الجامعة حتى الآن…. إلخ».

ويقول مناقش آخر: «حينما كنت أقرأ الرسالة كان يغمرني إحساس بأن باب الاجتهاد لم يقفل، وأنه قد أعيد فتحه. كنت أحس أنني أقرأ لعالم كبير يتصدى للأمور بشجاعة، وبروية، وبأدلة مقنعة، فهي تدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن مستقبلاً زاهراً ينتظره في حياته العلمية المقبلة إن شاء الله».

وحينما أقتبس هذه العبارات من تقرير لجنة المناقشة لرسالة معالي الأستاذ الدكتور عبدالسلام -رحمه الله- فإنما أريد التشديد على أن ما أنتجه بعد ذلك من إنتاج فقهي، وما قدمه من نقاش في أروقة المؤتمرات وحلقات النقاش، إنما هو نتاج هذه العقلية العلمية الفذة -رحمه الله وأحسن إليه-.

عرفته عالماً حازماً محافظاً على عمله، وحافظاً لوقته، حازماً إدارته، أكاد أقول إنه لا يقبل أنصاف الحلول، وهذا أظنه قد كلفه كثيراً في صحته وإدارته -رحمه الله وأحسن إليه-. وقد كان له الدور الكبير والأثر الظاهر في القيام بأعمال المجمع والإشراف على مناشطه ودوراته، وسعيه لتطويره، والارتقاء به.

وموت العلماء مصيبة، وفقدهم رزية؛ فهم مصابيح الدجى، وأعلام الهدى.

وأحسب أنه محمود السيرة، حسن السريرة.

عليك بالصبر إن نابتك نائبة

من الزمان ولا تركن إلى الجزع

وإن تعرضت الدنيا بزينتها

فالصبر عنها دليل الخير والورع

وكثيراً ما تمثل فاقدو أحبتهم بمثل هذه الأبيات:

فلو كان يفدى بالنفوس وما غلا

لطلبنا نفوساً بالذي كان يطلب

ولكن إذا تم المدى نفذ القضا

وما لامرئ عما قضى الله مهرب

وما الحال إلا مثل ما قال من مضى

وبالجملة الأمثال للناس تضرب

لكل اجتماع من خليلين فرقة

ولو بينهم قد طاب عيش ومشرب

 

وقول القائل:

بدوت، وأهلي حاضرونَ، لأنني

أرى أنَّ داراً، لستِ من أهلها، قفرُ

 

وقول الآخر:

شهد الله لم يغب عن جفوني

شخصه ساعة ولم يخل حسي

 

وبعد، فرحم الله الأستاذ الدكتور عبدالسلام، وغفر له، وأسبغ عليه شآبيب رحمته، وأصلح عقبه وذريته، وأخلفنا خيراً.

وكيف أمحوك من أوراق ذاكرتي

وأنت في القلب مثل النقش في الحجر

والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

اقرأ ايضا

آخر الأخبار

اذهب إلى الأعلى