الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّدٍ، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فامتثالًا لقوله الله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} العلق:1-5، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، مرفوعًا: (طلب العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم، وإنَّ طالب العلم يستغفر له كلُّ شيء حتى الحيتان في البحر)؛ وعملًا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} آل عمران: 110؛ وقياما بواجب البيان الذي أخذه الله على أهل العلم في قوله تبارك اسمه : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } آل عمران: 187؛ وانطلاقًا من واجب النصح لأئمة المسلمين وعامَّتهم، كما ورد ذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن الصحابيِّ الجليل تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، قلنا: لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامَّتهم)؛
لذلك كلِّه، فإنَّ مجمع الفقه الإسلاميِّ الدوليَّ يودُّ أن يوضِّح حكم الشرع في تعليق دراسة البنات والفتيات في المدارس بأفغانستان، وذلك كما يلي:
أولاً: إنَّ تعليم الذكور والإناث يعتبر في الشريعة واجبًا شرعيًّا، وقد دلَّت على ذلك آياتٌ مباركاتٌ من القرآن الكريم، وأحاديث صِحَاحٌ من السنَّة النبويَّة الشريفة، ولم يُذكر فيه خلافٌ معتبرٌ بين أهل العلم، وتعدُّ أول آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آكد وأعظم دليل على هذا الوجوب، وهي قوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} العلق: 1، فقوله: { اقْرَأْ } أمرٌ للنبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم بالقراءة، والأمر كما هو معلوم يقتضي الوجوب عند علماء الفقه والأصول، وإذا كان النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم مأمورًا بالقراءة أصالةً، فإنَّ أمَّته مأمورةٌ بالقراءة تبعًا من بابٍ أولى، ولا فرق في هذا الأمر بين الرجل والمرأة، وبين الصَّبيِّ والصبيَّة، فكلُّهم جميعًا مأمورون بمقتضى هذه الآية العظيمة بالقراءة، والقراءة باتفاق أهل العلم يراد به التعلم والتعليم. كما أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث (طَلَبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ..) هو الآخر دليلٌ شرعيٌّ صريحٌ واضحٌ دالٌّ على وجوب تعليم البنين والبنات والفتيات في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ.
ثانيًا: إنَّ حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل من أهمّ مقاصد الشريعة السامية، ومن المصالح الضروريَّة التي تواترت الشرائع السماويَّة على الدعوة إلى وجوب المحافظة عليها بكل الوسائل والإمكانات المشروعة، ويعدُّ التعليم باتفاق علماء الأمَّة أهمَّ وسيلةٍ من وسائل حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل؛ لأنَّه هو الذي يمكِّن الإنسان من معرفة ربِّه، ودينه، كما يمكِّنه من معرفة حقوقه وواجباته، ويمكِّنه أيضًا من عمارة الكون، والقيام بمهمَّة الاستخلاف في الأرض في إخلاص وأمان، بل إنَّه يحميه من الآثار الوخيمة المترتَّبة على الجهل، والوقوع في الخرافات والضلالات، ولذلك، فإنَّه يعتبر من أعظم القربات، وآكد الواجبات على البنين والبنات والفتيات؛ وإذا كانت القاعدة الشرعيَّة المتفق عليها تقرِّر بأنَّ “ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ”، وأنَّ “مقدِّمة الواجبِ واجبٌ”، فإنَّ التعليم يعدُّ في الشريعة واجبًا شرعيًّا لأنَّه يعدُّ مما لا يتمُّ الامتثال بواجب حفظ النفس، وبواجب حفظ الدين، وبواجب حفظ العقل إلا به؛ ولأنَّه يعدُّ أيضًا مقدِّمة واجب حفظ النفس، وواجب حفظ الدين، وواجب حفظ العقل.
وبناء على هذا، فإنَّ تعليم الذكور والإناث واجبٌ شرعيٌّ لأنَّه يتوقف عليه المحافظة على مقاصد الشريعة عمومًا، وعلى مقاصد حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل خصوصًا، كما أنَّ منع البنين والبنات من التعليم يعتبر إخلالًا بمقاصد الشريعة عامَّة وبمقاصد حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل خاصَّة، كما يعتبر إضرارًا بالغًا بالمصالح الضروريَّة التي تختل الحياة باختلالها، وكلا هذين الأمرين يعتبر محرّمًا شرعًا.
ثالثًا: إنَّ منع البنات والفتيات من التعليم يعدُّ مخالفة لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمنهج السلف الصالحين من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وتابعيهم بإحسان، رحمهم الله، ولم تعرف الأمَّة الإسلاميَّة هذه المخالفة عبر تاريخها المديد، خاصَّة أنَّه من المتواتر أنَّ النساء كنَّ يحضرن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعلم فيه الصحابة رضي الله عنهم، بل إنَّه صلى الله عليه وسلم خصَّص للنساء أيامًا لتعليمهن، وكانت أمهات المؤمنين من كبار عالمات الصحابة رضي الله عنهم، وهنَّ اللاتي علَّمنَّ كثيرًا من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم، مما يجعل منع البنات والفتيات من التعليم شيئًا منكرًا.
رابعًا: إنَّه ينبغي تنبيه الأمَّة وتحذيرهم من الاغترار بتلك الأحاديث المشتهرة على ألسنة العوام، خاصَّة تلك الأحاديث الموضوعة المختلقة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يستند إليها بعض المتعلِّمين لتبرير منع البنات والفتيات من التعليم، ومن أشهر تلك الأحاديث الباطلة والموضوعة ما وضعه الوضَّاع الشهير محمد بن إبراهيم الشامي، حيث نَسَبَ، كذبًا، إلى أمِّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، أنَّها قالت: لا تنزلوا النساء الغُرَف، ولا تعلِّمونهنَّ الكتابة، وعلِّموهن سورة النُّور، والمِغزل.
إنَّ اتِّخاذ مثل هذا الكلام المكذوب والباطل دليلًا وحجَّةً لمنع أو تعليق تعليم البنات والفتيات يُخشى منه على مَنْ يَفعله من أن يكون ممن يَتركُ عَمْدًا ما قرَّرته الآياتُ المُحكماتُ من كتاب الله الكريم ونصَّت عليه البيِّناتُ الواضحاتُ من سنَّة رسوله المعظم ﷺ، وإجماع الأمَّة، والعياذ بالله.
أخيرًا: إنَّ ما توصلت إليه النَّظمُ التعليميَّةُ المعاصرةُ من طرقٍ حسنةٍ معينة على ضمان تعليم النشء ممثَّلًا في تقسيم تلك النظم المراحل التعليمية إلى مراحل ابتدائيَّة ومتوسطة وثانويَّة وجامعيَّة يعتبر الالتزام بذلك التقسيم من المصالح الشرعيَّة التي يؤخذ بها، وذلك تمكينًا للبنين والبنات من الامتثال بالواجب الشرعيِّ المتمثل في وجوب التعلم والتعليم، ولذلك، فإنَّ منع البناتِ والفتياتِ من التعليم في أيِّ مرحلةٍ من المراحل التعليميَّة المذكورة فيه تعسفٌ واضحٌ ومجاوزةٌ كبيرة.
وبناءً على كلِّ ما سبق، فإنَّ مجمع الفقه الإسلاميِّ الدوليَّ يُناشدُ السلطةَ الحاكمةَ بأفغانستان أن يبادروا إلى إعادة فتح أبواب المدارس والجامعات للبناتِ والفتيَاتِ الأفغانيَّاتِ، امتثالًا لأمر الله تعالى، وعملًا بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزامًا بما عليه الأمَّةُ في كلِّ زمان ومكانٍ، كما يناشدهم أن يحرصوا على تمكين البنين والبنات من الالتحاق بجميع مراحل التعليم وجميع التخصُّصات التي يحتاج إليها الشعب الأفغانيُّ الكريم في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه، تمكينًا له من محاربة الفقر المدقع، والجهل المطبق، فليس للفقر سلاحٌ أَحدُّ من التعليم، وليس للجهل دواءٌ أنجعُ من التعليم.
إنَّ علماء الأمَّة في مشارق الأرض ومغاربها يذكِّرونهم بأنَّ تمكين أبناء وبنات وفتيات أفغانستان من التعليم والتعلُّم يعدُّ أمانةً في أعناقِهم، سوف يسألون عنها أمام الله يوم القيامة، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما: (كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيّتهِ، والرجلُ في أهلهِ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيّتهِ، والمرأةُ في بيتِ زوجِها راعيةٌ، وهي مسؤولةٌ عن رعيّتِها).
وفي الختام، يُناشِدُ المجمعُ جميعَ الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلاميِّ والمؤسسات الخيريَّة في العالم إلى تقديم الدعم الماديِّ والمعنويِّ للشعب الأفغانيِّ من أجل تمكينه من تطوير البنى التحتيَّة، والتجهيزات اللوجستيَّة، والمعامل، والمرافق الضروريَّة، والمواصلات التي تحتاج إليها المدارس والمعاهد والجامعات.
وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو
الأمينُ العامُّ لمجمع الفقه الإسلاميِّ الدوليِّ
اقرأ ايضا
آخر الأخبار