الحمد لله ربِّ العالمين، ونُصلِّى ونُسلِّم على رسوله الكريم الذي بعثه رحمةً للعالمين، فقال جل من قائل: (وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء 107)، وعلى آله وصحبه أجمعين، والذي مِنْ قوله: (الخلقُ كلُّهم عيالُ اللهِ وأحبّهم إلى الله أنفعُهم لعياله).(أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني)، وقوله: (الرَّاحِمُونَ يَرحَمُهم الرّحمن، ارحموا مَن في الأرضِ يَرحمُكم مَن في السَّماءِ)(أخرجه أحمد وأبو داود) وبعد؛
فإن مجمع الفقه الاسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي، والذي يعتبر مرجعيةً فقهيةً للأمة، بقرارٍ راشدٍ من مؤتمرات القمة الإسلامية، يعبّر عن بالغ تأثُّره وشديد استنكاره للعمليات الإرهابية المروّعة التي هزّت العاصمةَ الفرنسيّة مساء يوم الجمعة الفائت، ١ صفر ١٤٣٧هـ، الموافق ١٣ نوفمبر ٢٠١٥م، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، العديد منهم إصابتهم خطرة وحرجة. وتلك العمليات التي تمّت بصورةٍ مؤلمةٍ بالغةِ العُنف، ضاربةٍ عرضَ الحائط بالأحكام المستقرّة في الشريعة الإسلامية لتنظيم العلاقات مع غير المسلمين، دولاً وأفرادًا على أُسسٍ من العدلِ والمحافظةِ على الحقوقِ والصَّونِ للحياة والكرامة الإنسانية، فقد جاء قوله تعالى واضحاً في بيان حرمة الدّم الإنساني: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)(المائدة 32). وقال سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا)(الإسراء 70)، فالحياة الإنسانية مصانةٌ ومحميةٌ؛ فلا اعتداء على الآمنين ولا ترويع للمدنيّين ولا قتل لغير المقاتلين، حتى في الحرب المشروعة دفاعاً عن الدّين والوطن، والتي تُعلن بقرارٍ من وليّ الأمر في إطارٍ من المحافظة على العهود والمواثيق، والامتناع عن نقضها ضمن رؤيةٍ شاملةٍ لا تفرّط بحقوق الأمة ومصالحها العامة. ومن هنا جاء النهي عن قتل الأطفال والنساء والمدنيّين غير المحاربين في وصايا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لجند الإسلام وجيوشه، كما جاءت المعاملة المُثلى للأسرى، قال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا {8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا)(الإنسان 8-9).
ومن وصايا الرسول الأعظم بالأسرى قوله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأسارى خيراً)،(أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا لا يُجهَزَنَّ على جريحٍ ولا يُتَّبَعنَّ مُدبِرٌ ولا يُقتَلَنَّ أسيرٌ)(أخرجه الطبراني والبيهقي).
وتتعدد الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحفظ الحقوق وتحمي غير المسلمين على أساس من الاحترام التام للحياة الإنسانية والمحافظة على العهود والمواثيق، مع الضبط العادل للعلاقات الدولية، والحماية لحرية الاعتقاد والتعبّد، مما قدّم الإسلام فيه سبقاً وتميزاً، والذي تصادمه وتنافيه هذه الممارسات المنحرفة التي تشوه الصورة المشرقة لهذا الدين العظيم؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِله غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(الأعراف 85).
ويقول الله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)(النساء 58).
ويقول جل من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(المائدة 8).
وقد جعلت الآيات الكريمة العدوانَ على الإنسان ومقاتلته هي المسوّغ لإباحة قتاله بالشروط المقرّرة لذلك، فقال جل من قائل: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(الممتحنة 8-9).
أما الآية الكريمة التي حاول المخرّبُون القَتَلة التَّذرُّع بها، والتي وردت في سورة الحشر فهي تصف ما جرى من نصر للمسلمين في خيبر من قوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(الحشر 2)، فقد جاءت الآية تصف هذا النصر وأبعاده وظروفه، في حربٍ معلنةٍ مشروعةٍ أذِنَ فيها الرسولُ الأعظم على من تآمر واعتدَى وخانَ العُهودَ والمواثيق، فسياقها ودلالتها غير هذا السياق وهذه الدلالة، ولا تبرير فيها أبدًا لما جنى هؤلاء الإرهابيون، لا من قريب ولا من بعيد؛ فمطلعها: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ…).
وفي هذا السياق تذكّر أمانة المجمع بما صدر من مجلس المجمع الموقر، الذي يضمّ علماء يمثلون الأمة بمختلف بلادها ودولها، من قرارات متعددة تشدّد على التنديد بجميع مظاهرِ التطرّف والعنف والإرهاب، أيًا كان مصدرها ودوافعها، ومن ذلك قرار المجمع رقم ١٥٤(٣/١٧) الصادر عام ١٤٢٧هـ، الموافق ٢٠٠٦م، بهذا الخصوص حيث نصَّ على “تحريم جميع أعمال الإرهاب وأشكاله وممارساته، واعتبارها أعمالاً إجراميةً تدخل ضمن جريمة الحرابة، أينما وقعت وأيا كان مرتكبوها. ويُعدُّ إرهابيًّا كلُّ من شارك في الأعمال الإرهابية مباشرةً أو تسبُّبًا أو تمويلًا أو دعمًا، سواءٌ كان فردًا أم جماعةً أم دولة، وقد يكون الإرهابُ من دولةٍ أو دولٍ على دولٍ أخرى”.
وأمانة المجمع بعد هذا التنديد والإدانة والاستنكار الواضح لهذه الجريمة النكراء: لا يفوته التعبير عن كل معاني المواساة والتعزية لذوي الضحايا، مؤكّداً على ضرورة التعاون الدولي البنّاء لاجتثاث هذه الممارسات وفاعليها، ومنع كل ما يعكّر صفو المجتمع الإنساني وأمنه، وبذل الجهود للمحافظة على مبادئ حقوق الإنسان والحريات المسؤولة التي لا تمسّ المقدسات ولا تعتدي على الحرمات؛ ترسيخًا لمعاني السلام والوئام بين الناس، على ما بينهم من تعدّد في الأديان واختلاف في المذاهب وتنوعٍ في الآراء.
وختاماً كلّ الدعاء للمولى جل وعلا أن يحقّق الخير والسلام للبشرية، ويحميها من كلّ شرور البغي والضلال والظلم والفساد.
والله سبحانه الحافظ والمعين والموفق.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار