معالي الأمين العام يتحدث عن الضوابط الشرعيَّة لحماية حقوق الإنسان في الأعمال التجارية في دورة الهيئة 21

ضمن أعمال برنامج الدورة الحادية والعشرين للهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان لمنظمة التعاون الإسلامي التي بدأت صباح يوم الأحد 01 من شهر ذي القعدة لعام 1444هـ الموافق 21 من شهر مايو لعام 2023م بفندق هيلتون بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية.

ألقى معالي الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، الأمين العام للمجمع، كلمة بعنوان المنظور الإسلامي للأعمال التجارية ودور التراث الإسلامي في حفظ الحقوق واستلهام أفضل الممارسات في مجال الأعمال والتجارة، وهذا مختصر لما جاء في كلمته الضافية: ” إننا أمة مباركة ذلك أن الأجداد العظام من علماء العقيدة والفقه والأصول والمقاصد تركوا لنا ذلك التراث الجامع الماتع الذي يحوي كل ما يخطر بالبال من أصول رصينة، وقواعد متينة قادرة على توجيه نوازل المال والأعمال، وتسديد مستجدات وسائل الكسب والاكتساب، وترشيد الأشكال والأنماط التي تطرأ على العقود والالتزامات والحقوق والمعاملات، ولا يتطلب الأمر في واقع الأمر إلى كبير جهد أو عظيم عناء، ولكن استيعابا لهاتيكم الأصول، وهضما لتلكم القواعد، والتزاما بالأسس والقواعد بعيدا عن جميع أشكال التكلف، والتطويع.
إن دور تراثنا الفكري في حفظ الحقوق، وحماية الممتلكات، وتشجيع الإنتاجية، والاحتفاء بالإبداع والابتكار يؤكده أيما تأكيد اعتبار شرعنا الحكيم حفظ المال أحد المقاصد الشرعية والمصالح الضروريَّة الخمسة التي اتفقت كل الشرائع على وجوب المحافظة عليها، وضرورة صيانتها من كل اعتداء أو اعتساف (النفس، والدين، والنسل، والمال، والعقل)، وذلك تعظيما لمكانته، واحتفاء بمنزلته، وتقريرا للحاجة الملحة اليه، فضلا عن أن الشرع العظيم ربط تحقق الالتزام بجملة حسنة من العبادات من زكاة، ووقف، وصدقة، ووصية، وسواها بضرورة وجوده، وتوافره، ونمائه، وثباته.
ولهذا كله، فلا غرو أن تحظى الأحكام الموجهة والضابطة للأعمال التجارية اهتماما بالغا، وحضورا باهرا في نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة توجيها وتسديدا وترشيدا، وليس من عجب أن تتضمن تلك الأحكام سياجا آمنا وحزمة طيبة من الضوابط الشرعية التي تجعل من المال والأعمال أداة بناء ووسيلة من وسائل المحافظة على حقوق الإنسان خاصة حق الكرامة، والعيش الكريم، كما أن تلك الضوابط تحمي المال من أن يتحول إلى أداة تخريب أو تدمير ومصادرة لحقوق الإنسان.

إن ممارسة الأعمال التجارية تعد جزءا من الدين كالصلاة والزكاة والحج وغيرها انطلاقا من قوله تعالى (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). ولحكمة ما جعل الشرع الكريم النصوص الواردة في المعاملات المالية نصوصا مرنة تسع للاجتهاد والتجديد مواكبة للتطورات والتغيرات التي تطرأ عل. المعاملات المالية عامة والأعمال التجارية خاصة.
ولئن أقرّ الإسلام بفطرية حب الإنسان للمال، وحثه على السعي في طلبه (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، غير أنه قيد ذاك الحب، وذلك السعي بضوابط يجب الالتزام بها عند كسب المال وحيازته من خلال الأعمال التجارية، ومن أهمها: تحري الصدق والأمانة اللذين يعدان سببين لحصول البركة في المال، والتاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)، والشركاء الصادقون في معية الله، ففي الحديث القدسي: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر). ومن أجل الحفاظ على هذين الضابطين المهمين جاء التحذير الشديد والتهديد الوعيد والأكيد لمن يكذب في المعاملات المالية، فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فقلت من هم يا رسول الله فقد خابوا وخسروا قال: المسبل إزاره، المنّان عطاءه، والمُنفِّق سلعته بالحلف الكاذب)؛
ومن الضوابط المهمة التي ألزم الشرع وجوب الالتزام بها في الأعمال التجارية الابتعاد عن الغش والخداع، فقد ثبت في السنة أنه عليه الصلاة والسلام مرّ على صبر من طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا قال: ما هذا يا صاحب الطعام، قال: أصابته السماء يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أفلا جعلت فوق الطعام حتى تراه الناس من غشنا فليس منا)؛ ومن الضوابط المهمة الواجب مراعاتها في الأعمال التجارية السماحة في المعاملات بأن لا يُغالي البائع في السلعة، وأن لا يبخس المشتري ثمنها (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)، ومن الضوابط المهمة الابتعاد عن الاحتكار، وعدم استغلال حاجة الناس خاصة أثناء الأزمات والكوارث باحتكار السلع والبضائع حتى تنعدم وتشتد الحاجة إليها ومن ثم بيعها بأثمان مضاعفة، ففي مصنف عبد الرزاق الصنعاني عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحتكر إلا خاطئ، وما أعظم الخيانة خاصة في المطعوم والمشروب. ومن الضوابط المرعية في الشريعة عدم تطفيف الكيل والميزان مع التحذير الشديد منه باعتباره سببًا رئيسًا في الأوبئة والمصائب والكوارث في الدنيا، مع الوعيد الشديد والعذاب الأليم في يوم القيامة قال تعالى: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ).. وثمة ضوابط عديدة لا يسع المقام لسردها. وعليه، فإننا نخلص إلى القول إن تراثنا يزخر بقصص عن التزام التجار المسلمين بهذه الضوابط في أعمالهم التجارية مما كان له أثر كبير في انتشار الإسلام والدعوة إليه، وقبول المجتمعات غير المسلمة بالدخول فيه، وذلك لأن أقوالهم كانت موافقة لأفعالهم وسلوكهم، فكانوا قدوة في تعاملهم مع الآخر خاصة في المعاملات المالية، مما انعكس إيجابًا في نشر سماحة الإسلام ووسطيته وعدله في الأرض.
وتأسيسًا على هذا، فإنَّ الأمَّة الإسلاميَّة مدعوة اليوم أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى إلى بيان هذه الحقوق والعناية بها عبر الاجتهاد الجماعي الذي يمثله في العصر الراهن أكبر مؤسساته مجمعكم مجمع الفقه الإسلامي الدوليَّ بوصفه جهازًا فكريًّا علميًّا يضم المذاهب الإسلامية الثمانية المعتبرة التي يتبعها المسلمون في أنحاء المعمورة، وذلك من خلال الندوات والمؤتمرات وورش العمل والملتقيات الهادفة إلى تعزيز الوعي بأهمية الالتزام بالضوابط الشرعية في الأعمال التجارية؛ ومما يجدر ذكره في هذه المناسبةما أولاه المجمع مبكرا من عناية واهتمام بالمعاملات المالية دراسة، وتحقيقًا، وتأصيلًا وبيانًا، وذلك بدراسة مسائلها وبحث قضاياها المتجددة والمتطورة بغية توجيهها وتسديدها لتغدو خالية من وسائل الكسب التي تصادر حقوق الإنسان، وتعتدي على كرامته كالربا، والغش، والاحتكار، والغرر وغيرها، ويتضح هذا الدور الكبير في إصدار المجمع قرارات وتوصيات تعد بمثابة إجماع سكوتي في هذا العصر، وتقارب مائة (100) قرار رصين في شتى قضايا ومسائل المعاملات المالية تسهيلا على المؤسسات المالية والمصارف في الدول الأعضاء بالمنظمة الصدور عنها في تعاملاتها وأنشطتها.
وختاما، يحدونا أملٌ في أن تحقق هذه الدورة المباركة للهيئة أهدافها، ويجزي الله عنا وعن الأمة خير الجزاء دولة المقر، المملكة العربية السعودية، على ما تقدمه من رعاية وعناية بالعمل الإسلامي المشترك، وفق الله منظمتنا منظمة التعاون الإسلامي لتحقيق أهدافها.
إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، وما توفيقنا إلا بالله، عليه توكلنا، وإليه المآب.”

هذا وقد شارك في الدورة مجموعة من الجهات الرسمية والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان.

اقرأ ايضا

آخر الأخبار