بدعوة كريمة من الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، ألقى سعادة الدكتور عبد الفتاح محمود أبنعوف، مدير إدارة التخطيط والتعاون الدولي بالمجمع، كلمةً في المؤتمر الدولي حوْل: “القضاء على التمييز العنصري من المنظور الإسلامي ومنظور حقوق الإنسان”، يوم الأحد 12 من شهر جمادى الأولى 1445هـ الموافق 26 من شهر نوفمبر 2023م بمدينة جدة.
واستهلّ سعادته كلمته في الجلسة الأولى بعنوان (الأُطُر المِعياريّة الإسلامية والمؤسَّساتيّة للقضاء على التمييز العنصري) بقوْله: “بدايةً أسجّلها شكرًا وتقديرًا للهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان على تنظيم هذه الدورة في هذه المرحلة التي تمر بها أمتنا الإسلامية”.
ثم تحدث سعادته عن ثلاث مرتكزات للأطر المعيارية الإسلامية والمؤسّساتيّة للقضاء على التمييز العنصري، فقال: “المرتكز الأول: حول بعض المبادئ الإسلامية والموجهات الاسترشاديّة في القضاء على التمييز العنصري، المرتكز الثاني: الجوانب المؤسساتية بالتركيز على الجهود التي بذلها مجمع الفقه الإسلامي الدولي في هذا الإطار من خلال ندواته ومؤتمراته العلمية والقرارات الصادرة عنه، المرتكز الثالث: مقترحات حول بعض المعالجات والحلول للقضاء على التمييز العنصري”.
ثم أشار إلى تعريف التمييز العنصري، فقال: “أيّ تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثْنيّ ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة”.
ثم تحدث سعادته عن العنصرية بأنها تمثل أحد الأمراض الاجتماعية التي حاربها الإسلام، فقال: “اعتبر الإسلامُ العنصريةَ جريمةً كبرى واعتداءً سافرًا على خالق الكوْن، وما أوْدعه من نظام وتشريع. وأن الإسلام منذ الوهلة الأولى لبعثة النبي عليه الصلاة والسلام سدّ كل الأبواب المؤدية إلى التمييز العنصري، بأن حَفِظَ الحقوق، وجعل كثيرًا من الشعارات الدينية سببًا في تحقيق وحدة الصف في المجتمع، فالصلاة في صفوف متراصة ومستقيمة، والحج في زي واحد، والصوم في توقيت واحد، وغيرها من العبادات حفاظًا على تماسك المجتمع من التفكك ومن ذرع الكراهية والبغضاء بين البشر. كما حارب العنصرية والتعصب والعنف والغلو وشرع تعاليم خالدة، وتشريع رصين إن أحسنّا تطبيقه وتنزيله على واقعنا أمكننا ذلك بالقضاء على الاستعباد والتسلط والتمييز العنصري”.
ثم تحدث سعادته عن المرتكز الأول، مشيرًا للمبادئ التي تعالج العنصرية، فقال: “ أولًا: مبدأ المساواة: وهي تعني أن يتساوى الجميع في الحقوق الواجبات دون تمييز، أو تفرقة بسبب مذهب، أو طبقة، أو عصبية، أو أنساب، وللجميع التمتع بالحقوق دون تمييز أو تفرقة. فالإسلام أقرّ مبدأ المساواة للناس جميعًا مهما تباينوا أو تفاوتوا، والأدلة القرآنية والحديثية في ذلك كثيرة نذكر منها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الناس جميعًا سواسية لا فرق لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى)، فالمساواة قائمة في الحقوق والواجبات وفي الأحكام والعبادات والعقائد وإنما التفاوت والتقييد لإقامة العدالة لكلا الجنسين، ولما يحسنه كل واحد ويلائم فطرته وخلقته ويتفاضل الناس حسب أعمالهم: ﴿ولكل درجات مما عملوا﴾. على أنه يجب التأكيد أن ما يعطي هذه الحقوق القوة أنها ليست من وضع البشر وإنما قررها الشارع الحكيم خالق البشر وبيّنتها السنة النبوية الشريفة، وأنها شامل للبشرية جمعاء”.
ثم أشار سعادته إلى أمثلة عملية سطّرها الإسلام في الاندماج بين مسلمين من بلدان مختلفة، فقال: “ضرب الإسلام أروع الأمثلة في التعايش الديني في صدر الإسلام، فمن ذلك وثيقة المدينة المنورة التي تعتبر أبلغ دليل على التنوع الديني قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وهي تؤسس للمجتمع المدني للتعايش بكل أطيافه ومكوناته، كما طبق الإسلام ذلك دون تمايز لأصول أو أنساب وجمع بين بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي مع الصحابة الكرام وهو دليل على انصهار القوميات والجنسيات والعصبيات والألوان تحت لواء واحد، ودين واحد، وقانون واحد”.
ثم أشار سعادته إلى المبدأ الثاني لعلاج العنصرية، فقال: “ ثانيًا: مبدأ العدالة: إن من حق الفرد أن يدافع عن نفسه متى ما لحقه من ظلم: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ كما له الحق في اللجوء إلى سلطة شرعية مستقلة كفيلة بأن تحميه وتنصفه وتدفع عنه ما وقع عليه من ظلم، ، كما له عدة حقوق منها: أنه محمي بالبراءة الأصلية ما لم تثبت الإدانة أمام محكمة عادلة، وأنه لا تجريم إلا بنص شرعي، وألا يؤاخذ المرء بجريرة غيره ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، فالعدالة تقتضي أن يحاسب المرء على أعماله وتصرفاته، وألّا تمتد المساءلة إلى أهله أو أقاربه، وغيرها من الحقوق الأخرى كحق الحماية من التعذيب، ومن التعسف في استعمال السلطة، وحقه في حماية عرضه وسمعته وعدم انتهاكها، وحقه في اللجوء، كما أنه من العدالة العدل في الأسرة وبين الزوجات والأولاد لإشاعة المودة والرحمة بينهم وعدم التمييز والتفضيل فيما بينهم.
ثم أشار سعادته إلى المبدأ الثالث لعلاج العنصرية، فقال: “ثالثًا: مبدأ الكرامة الإنسانية: احترام كرامة الإنسان مهما كان دينه، أو جنسه، أو لونه، أو عرقه، واحترام مشاعر الآخرين المخالفين في الدين وعدم السخرية والاستهزاء بمعتقداتهم. ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾”.
ثم أشار سعادته إلى المبدأ الرابع لعلاج العنصرية، فقال: “رابعًا: التعصب: هو تعصب المرء في اعتقاده، وفيما يراه من أقوال أو أفعال وادعاؤه الكمال لنفسه تبعًا لهواه، والعصبية مذمومة في شريعتنا الإسلامية: (ليس منا من دعا إلى عصبية) ومنها التفاخر والتباهي بالآباء والأنساب، قال عليه الصلاة والسلام: (دعوها فإنها منتنة) ويختلف في ذلك التعصب القبلي عن حب القبيلة وشرف الانتماء إليها، وللتعصب أنواع عديدة: منها الفكري، والديني، والمذهبي، والسياسي، والطبقي، والعنصري وغيره من الأنواع. والجدير بالذكر هنا أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي من أهم أهدافه المنصوص عليها هو نبذ التعصب المذهبي والغلو في الدين وتكفير المذاهب وأتباعها بنشر روح الاعتدال والوسطية والتسامح بين أتباع المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة”.
ثم انطلق سعادته للحديث عن المرتكز الثاني الجهد المؤسسي من خلال مجمع الفقه الإسلامي الدولي في علاج العنصرية، فقال: “إن المجمع قد عالج بعض الجوانب المتعلقة بالموضوع سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة وذلك من خلال مؤتمراته العلمية” بالإشارة إلى بعض القرارات مع ذكر الفقرة المتعلقة بموضوع الورقة المواضيعية مع إمكانية الرجوع إلى كامل القرارات المنشورة على موقع المجمع، فمن ذلك قراره بشأن حقوق الإنسان والعنف الدولي في الدورة (14) 2003م. وقراره رقم 151 في الدورة (16) 2005 بشأن رعاية الأقليات المسلمة، وقراره رقم 154 في الدورة (17) بشأن موقف الإسلام من الغلو والتطرف والإرهاب، وقراره رقم 163 في الدورة 18 بشأن إقرار حق المواطنة يشمل غير المسلمين وفقًا للضوابط الشرعية في مقابلة الحقوق بالواجبات، وجوب المبادرة إلى التخلص من السلبيات التي يعيشها المسلمون للتغلب على التحديات التي يواجهونها مثل: التعصب المذهبي، التطرف الفكري السلوكي، أحادية المعرفة وغيرها، وقراراه رقم 229 في الدورة 23 بشأن إعلان التعايش الكريم في ظل الإسلام، وقراره رقم 233 في الدورة 24 بشأن دعوة الأمم المتحدة والدول الأعضاء إلى سن تشريعات وإبرام معاهدات دولية تجرم العنصرية والإقصاء والعصبية والتمييز العنصري وإدراجها في تشريعات الدول الأعضاء.
وختم سعادته كلمتَه بالمرتكز الثالث لمقترحات علاج العنصرية، فقال: “دعوة المؤسسات التعليمية والعلمية في الدول الأعضاء لإبراز سماحة الإسلام بصورته المشرقة التي تدعو إلى قيم التسامح والمحبة والتواصل مع الآخر والتعاون على الخير، بتكثيف الجرعات التربوية والتعليمية والتركيز على الأجيال الناشئة في التعريف بالمبادئ الإسلامية السمحة، وتصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة حول فهم النصوص الشرعية وذلك بإقامة الدورات العلمية وورش العمل وتفعيل دور العلماء من الدعاة والمختصين في دور العلم المختلفة، وتفعيل دور الإعلام بمختلف أنواعه في التعريف والتنوير بخطورة التمييز العنصري والدعوة إلى العنصرية وتبنّي أفكارها ومعالجة ذلك بكافة السبل الممكنة، وسَنّ التشريعات والقوانين التي تجرم التمييز العنصري وتتبنى أفكاره، تطبيق القوانين الرادعة للقضاء على العنصرية والاستعباد، ودعوة الدول والمجتمعات إلى الاستفادة من التجارب الناجحة في سبل مواجهة التطرف والإرهاب والتعصب بمختلف أنواعه”.
هذا، وقد شارك في الدورة مجموعة من ممثلي الدول الأعضاء في الهيئة، والدول المراقبة والمؤسسات الوطنية والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار