شارك معالي الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، الأمين العام للمجمع، في أعمال المؤتمر الدولي: “بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية” الذي تنظّمه رابطة العالم الإسلامي برعاية كريمةٍ من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حيث ألقى معاليه كلمةً في الجلسة الختامية للمؤتمر، يوم الاثنين 08 من شهر رمضان لعام 1445هـ الموافق 18 من شهر مارس لعام 2024م بمكة المكرمة.
وفي مستهلّ كلمته قدّم معاليه الشكر والتقدير والامتنان إلى المملكة العربية السعودية ملكاً، وولي عهد، وحكومةً وشعبًا على هذه الدعوة المباركة والرعاية الكريمة لهذا المؤتمر بهذه المرحلة التاريخية التي تمرّ بها أمّتنا الإسلامية، كما سجّل شكره الأجزل لمعالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، على هذه المبادرة التي تعيد للأمّة الأمل في إمكانية معالجة كثير من القضايا، ومواجهة التحديات التي تمرّ بها الأمّة الإسلامية.
ثم أوضح معاليه أن التحديات الفكرية والإكراهات السياسية التي تواجهها الأمة بهذه المرحلة العصيبة من تاريخها لا قِبَلَ لها بها إلا بوحدة في شعورها، ووحدة في مشاعرها وفي شعائرها، وبتحقيق وتطبيق لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾، وما ورد من نصوص في كتاب الله تأمر وتدعو وتحثّ على الوحدة التي تجعل المسلم اليوم يستحضر قوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمَثَل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى”.
ثم تحدث عن المذاهب الإسلامية والاجتهادات المُخلِصة التي قام بها كبار العلماء لهذه الأمّة فقال: “إن المذاهب الإسلامية التي نتحدث عنها عبارة عن تلْكم الاجتهادات المخلصة التي قام بها فَطاحِلة العلم عبر التاريخ، بل هي عبارة عن تراكمات فكرية تجمّعت لهذه الأمة، إنها التراث الزاخر والوافر، إنه الإرث الكبير لهذه الأمة، وهذه الاجتهادات نُسِجَت حول كثير من نصوص الكتاب والسنة حول قضايا ووسائل تتعلق بالإسلام، والإيمان، والإحسان، كما ورد ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمر -رضي الله عنه- قال: “بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ يومٍ إذ طَلَعَ علينا رجلٌ شديد بَياض الثياب، شديد سَواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفَر، ولا يعرِفه منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ، فأسنَدَ رُكبتَيْه إلى رُكبتَيْه، ووضَع كفَّيْه على فخِذَيْه، وقال: يا محمد أخبرْني عن الإسلام؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : الإسلامُ أن تشهدَ أن لّا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتُؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضانَ، وتحُجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، قال: صدقتَ، فعَجِبْنا له يَسألُه ويُصدِّقُه، قال: فأخبرْني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسُله واليوم الآخِر، وتؤمِنَ بالقدَر خيره وشرِّه، قال: صدقتَ، فأخبرْني عن الإحسان؟ قال: أن تعبدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لَم تكن تراه فإنَّه يراكَ، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلمَ مِن السائل، قال: فأخبرني عن أمَاراتِها؟ قال: أنْ تلِدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأنْ تَرَى الحُفاةَ العُراةَ العَالَةَ رِعاءَ الشاءِ يَتَطاوَلون في البُنيان، ثمَّ انطلق فَلَبِثَ مليًّا، ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريلُ أتاكم يعلِّمُكم دينَكم”. إن هذه الأصول الثلاثة أعني: الإسلام، والإيمان، والإحسان، بمجموعها هي التي تشكّل الدين، أي: أن الدين عبارة عن إسلام، وإيمان، وإحسان، وقد نشأت المذاهب حول المسائل المتعلقة بهذه الأصول، مما يعني أن المذاهب التي نتحدث عنها هي مذاهب عقدية، وفقهية، وتربوية، نشأت من خلال النظر في النصوص التي تتعلق بالأصول المذكورة، وأصبحت الأمّة تملك ثروةً فكريةً هائلةً ينْدُر مثلها لدى كثير من الأمَم”.
كما تحدث معاليه عن المقاصد التي دفعَت أولئك العلماء إلى تكوين هذا التراث، فقال: “إن هناك مقاصد من وراء تكوين العلماء هذا التراثَ، ونحسبها ثلاثة مقاصد أساسية إن أدركْناها حُقَّ لنا أن نعتزّ بها، وأن نحافظ عليها، وأن نوفّرها، وأن نبنيَ عليها”، وذلك مما يؤدي إلى المحافظة على وحدة الأمة الإسلامية وتتمثل المقاصد الثلاثة في “… مقْصد خدمة الدين، ومقصد التعليم والتفهّم والتعلّم، ومقصد البحث عن الراجح من الأقوال”.
وبالنسبة لبناء الجسور التي يدعو إليه هذا المؤتمر قال معاليه: “إن الجسور الحقيقية موجودة، وتحتاج إلى إبرازها، وتنْقِيَتها، وتنْمِيَتها، والنهوض بها، ويتحقق ذلك من خلال المحافظة على جملة من المقترحات نقدّمها لهذا المؤتمر المبارك الموفق بإذن الله، وهي:
أولاً: تعزيز الاعتقاد الجازم بحُرمة الثالُوثِ المتمثل في: حُرمة سَفْك الدماء، وهَتْك الأعراض، وإبادة الأموال، أي: يجب الإيمان بحُرمة دماء أتباع المذاهب، وحُرمة أعراضهم، وحُرمة أموالهم، مصداقًا لقوله -صلى الله عليه وسلم- “كل المسلم على المسلم حرام دمُه، ومالُه، وعِرضه”.
ثانيًا: حرمة تكفير الأئمة وأتباع المذاهب الإسلامية السائدة، الْتزامًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَن صلّى صلاتَنا، واستقبلَ قِبلتَنا، وأكلَ ذبيحتَنا، فذاك المسلم الذي له ذمّة الله، وذمّة رسوله، فلا تُخْفِروا اللهَ في ذمَّته”، والتكفير داءٌ عُضال يتورّط فيه أشباه المتعلمين الذين لا يقرأون ما تنظر إليه هذه الاجتهادات، ويحكمون على أيّ اجتهاد يخالفهم أنه يؤدي إلى الكفر.
ثالثًا: حرمة الطعن والتشكيك في عقائد أئمة المذاهب وأتباعهم، كما شدَّد معاليه بضرورة الابتعاد عن الطعن والتشكيك في الولاءات، خاصةً في عقائد الأئمة الذين تركوا ثروة فكرية، وعقدية، وفقهية، وتربوية.
رابعًا: الابتعاد عن المفاضلة بين أئمة المذاهب التي تأتي بالمُناوَشات والتفرقة بين أتباع المذاهب، بل يجب محبّتهم كمحبة بعضهم لبعض، وتقديريهم كتقدير بعضهم لبعض، عندها سيزول هذا الخلاف، وأوضح معاليه بأن الاختلاف سنةٌ كونيةٌ، وإرادةٌ إلهيةٌ أرادها الله، وأن هذا الاختلاف هو اختلاف تنوُّع، وليس اختلاف تناقُض وتَضادّ يجب أن يكون.
وفي الختام عبّر معاليه عن أمَله أن يحقق هذا المؤتمر أهدافه بالمحافظة على هذه الجسور قويةً سديدةً من خلال الوثيقة التي ستصدر عن المؤتمر، مما يؤدي إلى الانتقال من الحديث النظري عن الوحدة إلى الحديث العملي، من خلال هذه الضوابط والقيَم والمرتكَزات التي لا يتَّسع المَقام لذِكر مزيد منها.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار