شارك معالي الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، في أعمال المؤتمر الدولي “الفتوى في المجتمعات المعاصرة” خلال الفترة الواقعة ما بين 21-22 من رجب 1445هـ الموافق 2-3 من فبراير 2024م في العاصمة سنغافورة, وكان موضوع مداخلة معاليه حول أهمية الفتوى ومنهجيّتها المنشودة، ومنهج المجمع في إصدار فتاواه المَوْسومة بالقرارات والتوصيات، مقترحات لمنهجية الفتوى في السياق السنغافوري.
هذا، وقد استهلّ معاليه مداخلته بالتعبير عن شكره الجزيل وامتنانه الجميل لجمهورية سنغافورة، هذه البلدة الطيبة، سنغافورة العلم والنهضة والنظام، كما أعرب عن سعادته بالمشاركة في هذا المؤتمر المهم الذي يناقش المناهج والطرائق التي يُستعان بها لتطوير الفتاوى، والارتقاء بمؤسسات الفتوى وفق السياقات المختلفة.
ثم تحدث معاليه عن دَور الفتوى للمسلمين مبيّنًا أنها المَلاذُ الآمِن عبر التاريخ، والتي من خلالها يمكن معرفة أحكام الشريعة في المستجدات والنوازل. كما أن لها أهمية قصوى في تشكيل العقل المسلم المعاصر، وتحديد هويته، ونظرته إلى نفسه، ومجتمعه، والعالم مِن حوْله، وأن حكمة رب العالمين اقتضتْ أن تقتصر مهمة البيان والتبيين للأحكام الشرعية على مجموعة متميزة من العلماء الذين يجمعون بين معرفة الشريعة ومعرفة الواقع، كما اقتضت حكمته البالغة أن تظلّ ممارسة هذه الصناعة المشرَّفة مقدَّسة عبر التاريخ، استنادًا إلى تأثيرها على التصورات والمستجدات.
كما تحدث معاليه حول أهمية الفتوى ومنهجيتها، قال: “إن الفتوى باتتْ تُمارَس من خلال الصحف والمجلّات والمحطّات الإذاعية والقنوات الفضائية وصفحات الويب، كما أصبحت تمارَس من خلال الهواتف الثابتة والمحمولة والرسائل الإلكترونية وغيرها من وسائل الاتصال، مما زاد من تأثيرها على الأفراد والمجتمعات بسرعة وعُمق، غير أنه مما يُؤسَف له ما نراه اليوم من تجاسُر وتجرُّؤ أشخاص غير مؤهلين للفتوى على اتخاذها وسيلةً للشهرة الزائفة، والشعبية المضلِّلة، والوسائل الرخيصة لنشر الفتن والرذائل والاضطرابات. لذلك فإنه من الضروري توفير آلية للحماية اللازمة لهذه الصناعة الشريفة، وذلك من خلال وضع إطار قانوني حاسم يحمي الأفراد والمجتمعات من الفتاوى الشاذّة التي تصدر من غير المؤهَّلين، منعًا من التلاعُب بالأحكام الشرعية، وتجنُّبًا من الآثار التي تؤدّي إلى الإخلال بالأمن الفكري للأفراد والمجتمعات، ونشْر التطرف والتعصّب والغلوّ في الفكر والسلوك”.
كما دعا معاليه إلى اتخاذ إجراءات فكرية وإدارية وسياسية لمَن يمارِس الفتوى قبل التأهّل لها تأهّلًا واضحًا يجعلُه يُدرك أن الفتوى في المسائل العامة متروكة لمؤسسات الإفتاء وليس للأفراد، مشددًا على ضرورة ملاحقة العابثين بصحة الناس وسلامة أبدانهم، والعابثين بأديان الناس وعقائدهم من خلال الفتاوى الشاذّة والشاردة في المسائل العامّة، وعدم التهاون معهم.
ثم تحدث معاليه عن منهج المجمع في إصدار فتاواه الموسومة بالقرارات والتوصيات، ودَوره في تقديم الحلول الشرعية المناسبة لمشكلات الحياة المعاصرة التي يواجهها المسلمون في أنحاء العالم، مبتدئًا حديثه بنبذةٍ تعريفية عن المجمع: تأسيسه، وأهدافه، ورسالته، موضحًا بأن المجمع يحرص دائمًا عند إصدار قراراته وتوصياته على الانتقال بالفتوى من دائرة العمل الفردي إلى دائرة العمل المؤسسي المنظَّم، متجنّبًا الارتجال والعشوائية والفوضى، مما يقتضي متابعةً دقيقة لمختلف النوازل والتحديات والمستجدات التي لا تفْتأ تُداهِم الحياة المعاصرة، كما يقتضي تحديد وسائل وأساليب التعامل معها بطريقة رصينة تميّز بين مجالات الفتوى من حيث العموم والخصوص، ومن حيث الأفراد والمجتمعات بحيث تتولى الفتوى في المسائل العامة مؤسسات الإفتاء التي تضمّ بين جنَباتها مجموعة من العلماء والخبراء المؤهلين لإصدار الفتاوى.
كما دعا معاليه هيئات ومؤسسات الفتوى من الاستفادة من وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، من أجل إيصال فتاواها إلى الناس مع توخّي الحذر، والانتباه، وعدم الخلْط بين الثوابت والمتغيرات عند إصدار الفتاوى، وإلى المتابعة عن كَثَبٍ النوازل والتطورات من أجل التصدّي لها، وبيان أحكامها؛ لتمكين الناس من معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه النوازل والتطورات، ويقتضي أخيرًا أن تكون مؤسسات الفتوى نموذجًا للانضباط والشفافية والتنظيم، والابتعاد عن الارتجال والتسرّع عند التعامل مع المستجدات والنوازل، وذلك بُغية صياغة فتاوى تتَّسِم بالحِياديّة والموضوعية والإنصاف.
وفي إطار أُسُس الفتوى، أكد معاليه على قُدرة الفتوى على تلبية احتياجات الناس، وتقديم الحلول المناسبة التي تعتمِد على الشريعة في جميع الأوقات والأماكن بسبب مبادئها القويمة، وقواعدها المَرِنة التي تهدف إلى تحقيق المصلحة ودَرْء المَفسدة من خلال البحث العلمي المدروس، والاستفادة من اجتهادات أئمة المذاهب الفقهية الثمانية المعتبَرة، والابتعاد عن التفاضل بين المذاهب والمقارنة بينها، موضحًا بأن المجمع يوقّر اجتهادات المذاهب، ويحترم أئمّتها، ويرفض المَسَاس بهم تحت أيّة طائلة من التبريرات؛ تأكيدًا على إيمانه بكَون أولئك الأئمة كلُّهم أئمة هُدًى، وكلهم على خير، وتقريرًا للقاعدة الأصولية “لا إنكار في مسائل الاجتهاد”، وقاعدة “الاجتهاد لا يُنقَض بمِثله”.
وانطلاقًا من كون المجتمع السنغافوري مجتمعًا متعدِّد الأعراق، ومتعدد الثقافات والأديان، دعا معاليه إلى أن تكون الفتوى فيه مؤسَّسيًّا لا فرديًّا؛ تجنّبًا من التناقض والتضادّ الذي يمكن أن يؤدي الى التنازع والتشرذُم والاختلاف المذموم، كما دعا إلى الاستفادة من التقنيات الحديثة ووسائل التواصل والاتصال، للمساعدة على تطوير وتقدّم النهضة بالفتوى نهوضًا يصدّ الباب أمام الفتاوى الفردية.
وبخصوص التحديات التي تُواجِه الفتوى ومؤسساتها، وبخاصة سنغافورة، أكد معاليه إلى ضرورة العمل الدؤوب، والتفكير الحكيم من أجل مواكبة التطوّرات والتحوّلات والتغيّرات في جميع مجالات الحياة لجعلها كلّها خادمةً للإسلام والمسلمين والبشرية جَمْعاء.
وفي ختام مداخلته، جدَّد معاليه دعوتَه الكريمة التي وجّهها إلى مؤسسات الإفتاء في مؤتمر الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في القاهرة بالتذكير بتلك المِيمات الخَمْس لترشيد وتسديد مؤسسات الفتوى المعاصرة. المِيمات الخَمْس، وهي: المؤسسية، والمصداقية، والمواكَبة، والمنهجية، والمهنية”، كما عبّر عن أمَله أن تتحقق الرؤية الإسلامية العالمية التي تهدف إلى تحقيق السعادة للبشر، وترفض العنف وخطاب الكراهية والإقصاء، وتدعو إلى بناء المجتمعات على أساس قيَم المحبة والأخوّة والتسامح والوئام والسلام الدائم.
اقرأ ايضا
آخر الأخبار