الحمد لله, وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صدرت تصريحات من بابا الفاتيكان في محاضرته: “العقيدة والعقل”، التي ألقاها في جامعة ريجنسبورغ بألمانيا، بتاريخ 12/9/2006، وقد أثارت هذه المحاضرة غضبا شديدا لدى عامة المسلمين، وذلك لاشتمالها على أخطاء ومغالطات كان يقصد منها مهاجمة الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين عامة، ونبرز في هذا الغرض فقرتين أساسيتين:
أولاهما: ادعاؤه أن العقيدة المسيحية تقوم على المنطق والعقيدة الإسلامية تقوم على أساس أن إرادة الله لا تخضع لمحاكمة العقل أو المنطق، وهذا كلام رد، فإن حظ المسلمين من اعتماد العقل ومعالجة القضايا عن طريقه أمر قائم لا ينكره إلا معاند. وقد أمر الله جل جلاله باستخدام العقل واعتماده في غير ما آية، كقوله عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ). وقوله جل جلاله: (فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وقوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).
وسند النظر الشرعي والتصرف الإسلامي الوحي، وهو صدق مقطوع به، والعقل نور قذفه الله في قلب الإنسان ليكون عونا على إدراك الحقائق والتصرف السديد فيها فالعمل بهذين مكلف به غير أن العقل لا يجول في كل شيء بل يقف في أشياء وينفذ في أشياء.
ومدارك العلوم في الدين هي العقل والمرشد إلى ثبوت كلام صدق، وأدلة السمعيات المحضة، وهذه هي الكتاب والسنة والإجماع، فهي لا يتطرق إليها الخطأ، ومتى اجتمع طريقان شرعي وعقلي أخذ بهما مع تقديم الشرعي الثابت على العقلي المحتمل.
وليس خافيا على أهل البصر والإدراك أن العقل الذي يعتمد ويحتج به هو ما سلم من التبلد الموجب لاعتلاله أو اختلاله أو قصوره أو اضطرابه، والحديث عن هذا الموضوع في الأصل وكما أورده المحاضر هو من قضايا المقارنة بين الأديان التي ليس هذا مجالها.
ثانيتهما: ما نقله عن كتاب مانويل الثاني، أحد ملوك بيزنطة، يصف الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه لم يأت إلا بأشياء شريرة وغير إنسانية، مثل أمره بنشر الإسلام الذي كان يبشر به بحد السيف، وفي هذا الحديث الذي وقع تفنيده منذ زمان تغيير للحقائق وطمس للواقع، وكشف عن دلائل العداء والحقد.
فالرسول النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي ختمت به الرسالات الإلهية والأديان السماوية، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا). وهو الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، ووصفه ربه بالرحمة في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). وهو الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الذي جعل هذه الحقيقة السلوكية متمثلة في الدعوة إلى تعظيم أمر الله والشفقة على خلقه، وأما المسلمون فهم (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) وهم الذين استجابوا لدعوته وآمنوا به، (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وقد أمرهم الله بالصبر والمصابرة ودعاهم إلى المرابطة، وأذن لهم في القتال على الشروط المعروفة والآداب المقررة في الإسلام من أجل حماية الدعوة وحفظ الأمة والدفاع عن الحقوق المستلبة كتحرير الأوطان، لا كما يصوره المناهضون لهذه الملة عدوانا وظلما، وفي القرآن مصدر الحقائق الإيمانية والتصرفات السلوكية بيان وتحديد لما أمر الله به من ذلك، قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ). وقال: (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ). وقال أيضا موجها لعباده منبها لهم: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). فالإذن في الحرب مرتبط بالتمكين من الحرية في القول والفعل وبالعدل والتقوى، وبحفظ الملة والأمة من غير تجاوز أو تعد أو ظلم، وهي أصول ومبادئ أجمعت عليها الشرائع ودعا إليها الحكماء والساسة في هذا العصر.
وهذا البيان يدعو إلى الرشد في النظر وإلى الصدق في التعامل وإلى التعاطف والتعاون، من أجل إقامة حوار بناء بين الحضارات والمجتمعات الإنسانية بعيدا عن كل مظاهر الغلو والصلف والعتو والفساد.
والرجاء من بابا الفاتيكان أن يتحرى في إصدار الأحكام على الإسلام ورسوله وأتباعه المؤمنين، ولا يجري مع الأهواء وخلف مغالطات المتعصبين من أعداء الإسلام والإنسانية، فإن أي كلام غير محرر يثير الفتنة والغضب وينشر الكراهية والعداء ويحمل على الصراع والتناحر.
ومن أجل رفع ما أحدثته التصريحات البابوية من إساءة وغضب في جميع الأوساط الإسلامية يطلب المجمع من البابا باسم علماء الدول الإسلامية وعامة المسلمين أن يقدم اعتذارا عما صدر منه.
والله الهادي إلى الحق وإلى سواء السبيل.
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
أمين عام مجمع الفقه الإسلامي الدولي
اقرأ ايضا
آخر الأخبار