معالي الأمين العام يحاضر عن البحث الفقهي المعاصر في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بأبوظبي
11 نوفمبر، 2025
 |  | 

بدعوة كريمة من جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بأبوظبي، ألقى معالي الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، الأمين العام للمجمع، يوم الثلاثاء 20 من شهر جمادى الأولى لعام 1447هـ الموافق 11 من نوفمبر لعام 2025م، محاضرة علمية بعنوان “البحث الفقهي المعاصر: المنهج، الخصائص، الآثار، الآفاق” وذلك في مقر الجامعة وحضر هذه المحاضرة سعادة الدكتور خليفة بن مبارك الظاهري مدير الجامعة، وسعادة الأستاذ الدكتور رضوان السيد عميد كلية الدراسات العليا، وسعادة الدكتور محمد البشاري الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، إلى جانب نخبة من أعضاء الهيئة التدريسية وطلبة الجامعة.

واستهل معاليه كلمته بالتعبير عن جزيل شكره لقيادة الجامعة على الدعوة الكريمة وحفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، مشيدًا بما حققته الجامعة من حضور متميّز خلال فترة وجيزة منذ تأسيسها، وأكد أن جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أصبحت منارة علمية مرموقة تجمع بين أصالة المنهج وعمق الهوية ووعي العصر ورؤية المستقبل، وترسّخ باستمرار مكانتها في خدمة البحث العلمي الرصين، وتعزيز الشخصية الحضارية الإسلامية المخلصة لدينها والوفية لوطنها وقيادتها، والملتزمة بالوسطية فكراً والاعتدال نهجاً والتسامح سلوكاً.

ثم قدم معاليه تعريفاً تاريخياً لمصطلح الفقه في الإسلام، مشيراً إلى أنه كان يشمل في البداية معاني الإسلام والإيمان والإحسان كما ورد في النصوص النبوية، قبل أن يتخصص لاحقاً ليُطلق على العلم بالأحكام الشرعية العملية فقط، وأشار إلى أن تطور هذا التخصيص جاء في نهاية القرن الأول الهجري، حيث برزت الحاجة إلى ضبط معاني المصطلحات وتمايز العلوم.

ثم انتقل إلى محور مناهج البحث الفقهي، موضحاً أنها تتنوع وتتداخل عبر ثلاث مسارات مترابطة: المنهج النقل الأثري، والمنهج العقلي القياسي، والمنهج التوفيقي الذي يجمع بين النص والعقل، وفي هذا السياق استعرض معاليه أيضاً المذاهب الفقهية الكبرى وخصائص كل منها، مبيناً أن المدرسة الحنفيّة تميّزت بالعقلانية والقياس، والمدرسة المالكية بالواقعية واعتماد عمل أهل المدينة، بينما حاول الإمام الشافعي الدمج بين هذين المنهجين. كما أوضح أن الحنبلين اهتموا بالنصوص النبوية الصحيحة بشكل واسع، وأن المدرسة الجعفرية (الشيعية) اعتمدت الانتقائية بأن يكون الراوي من أهل البيت، في حين لجأ الإباضين إلى استخدام العقل عند ندرة الأحاديث، وقد خلُص إلى أن تنوّع هذه المدارس وتفاعلها هو الذي شكّل منهج الفقه الإسلامي كما نعرفه.

كما تطرّق معاليه كذلك إلى خصائص المعرفة الفقهية، مشيراً إلى بنائها المقارن بالمصادر الإسلامية المختلفة، وإلى تركيزها على الأحكام العملية وفقاً للمقاصد، الأمر الذي يميزها عن باقي فروع المعرفة الإسلامية، وأثنى على كون البحث الفقهي علماً دينياً متمسكاً بثوابته (كالقرآن والسنة الصحيحة)، معتمداً في الوقت نفسه على مقاصد الشريعة والقيم الإنسانية مثل العدل والرحمة، ولفت النظر إلى أن هذه الخصائص جعلت للفقه أثرًا بنائيًا حضارياً في تاريخ الأمة.

وفي محور آثار البحث الفقهي في التشريعات وبناء الحضارة، أوضح معاليه أن البحث الفقهي كان قوة بنائية أساسية لمسيرة الأمة الإسلامية عبر العصور فقد أسهم في ترسيخ قيم العدل والرحمة في القضاء والفتوى، وإرساء منظومة تشريعية متكاملة، وتطوير وسائل تقنين حديثة مثل الوقف الإسلامي والبنوك القائمة على المصالح، وذكر أمثلة تطبق هذه الآثار في الحياة المعاصرة، كإسهام منطق المدارس المالكية في مجال الإنصاف القضائي، واستفادة المنهج الحنفي من القياس في تقديم حلول مرنة للمسائل المستجدة.

كما تناول معاليه آفاق البحث الفقهي في ضوء التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي، مشدداً على أن عصر الرقمنة يفتح مجالات واسعة للفقهاء والباحثين. ونوّه بضرورة استخدام التقنيات الرقمية الحديثة وأدوات الذكاء الاصطناعي في الفقه، مثل تحليل الأحاديث وتصنيفها إلكترونياً في دقائق معدودة بدلاً من الأسابيع، ولفت إلى أنها نعمة يجب تسخيرها لخدمة الدين. ولكنه أكد أن هذه التقنيات يجب ألا تكون بديلاً كاملاً عن الاجتهاد البشري، مشيراً إلى ضرورة الحفاظ على ضوابط الشريعة والقيم والأصول عند استخدامها. واستشهد بتجربة بعض الفقهاء في التحقق من صحة الأحاديث أو تنقيحها باستخدام قواعد بيانات حديثية، وكيفية الجمع بين النتائج الرقمية ومدركات الشريعة.

كما تحدث عن أهمية ربط الفقه بالعلوم الإنسانية والاجتماعية لفهم الواقع البشري الذي تنزل فيه النصوص، فقد أكد على أن الفقيه المعاصر بحاجة إلى الاطلاع على العلوم الاجتماعية والثقافية لفهم الواقع المعاصر للإنسان وظروفه، مما يساعده على إصدار فتاوى وتصورات تلائم حاجات هذا العصر، ودعا إلى تشجيع التخصص المزدوج (فقه ودراسات إنسانية) وتزويد طلاب الدراسات الإسلامية بأساس معرفي في العلوم الإنسانية، كي تكون نظرتهم إلى واقع الإنسان أكثر عمقاً.

وفي إطار الحفاظ على البحث الفقهي وتجديده تجديدًا رشيدًا وواعياً لا تفريط فيه بالثوابت ولا جمود على الموروث قال معاليه: “إن مسؤوليتنا اليوم كعلماء وباحثين ومؤسسات علمية هي أن نحافظ على البحث الفقهي بتجديده تجديدًا واعيًا لا يُفرِّط في الثوابت ولا يجمُد على الموروث، بل يجتهد في ضوء المقاصد ويستنير بأنوار النصوص ليستجيب لتحديات العصر الرقمي وما بعده، ليبقى الفقه الإسلامي نورًا يهدي وميزانًا يعدل ورحمةً للعالمين”، كما أعرب معاليه عن ثقته بقدرة جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، بما تزخر به من قيادة واعية ورؤية مستنيرة، على ريادة هذا التحول المنهجي المنشود، وتخريج جيل من الفقهاء المبدعين الذين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة وبين الاجتهاد والابتكار، ليخدموا دينهم ووطنهم والإنسانية جمعاء”.

وفي ختام المحاضرة أشاد معاليه بالدور الريادي لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية التي تمثل نموذجاً رائداً يجمع بين أصالة المنهج وعمق الهوية ووعي العصر وذكر أنها تحولت في فترة وجيزة إلى منارة علمية مرموقة تُعنى بالعلوم الإنسانية والفقه في آن واحد. كما أشار إلى أن المحاضرة حققت هدفها في إبراز أهمية البحث الفقهي المعاصر والحثّ على تطويره ليخدم الدين والوطن والإنسانية بخطى واثقة، ورؤية واضحة.

هذا، وقد شهدت المحاضرة تفاعلاً إيجابيًّا من قبل الحضور، الذين أثنوا على الطرح العلمي لمعاليه، كما قدّم سعادة الدكتور خليفة بن مبارك الظاهري مدير الجامعة درعًا تذكاريًّا لمعاليه تكريمًا له وتقديرًا لإسهاماته العلمية وجهوده في خدمة قضايا الفقه الإسلامي.

اقرأ ايضا

آخر الأخبار

اذهب إلى الأعلى